نهاية محمد: مناضِلة من أجل تحرير الذات والمرأة
في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، تكثر الأسماء التي حملت السلاح، أو التي وقّعت الاتفاقيات، أو التي برزت في ميادين السياسة والتنظيم. لكن القليل منهم استطاع أن يجمع بين النضال الوطني والعمل النسوي والرؤية الفكرية التحررية كما فعلت نهاية محمد؛ المناضلة التي آمنت بأن التحرر لا يُقاس فقط بمقدار ما نستعيده من الأرض، بل أيضًا بقدر ما ننتزعه من حرية للمرأة والإنسان داخل المجتمع الفلسطيني نفسه.
لم تكن نهاية محمد مجرد قيادية في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ولا مجرد وجه نسوي بارز في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، بل كانت – قبل كل شيء – عقلًا نقديًا وروحًا تحررية سبقت زمنها، رافضةً أي فصل بين كرامة الوطن وكرامة المرأة. تركت خلفها إرثًا لا يزال يتردد حتى اليوم، رغم مرور سنوات على رحيلها في 30 حزيران/يونيو 2015.
1. من طبريا إلى ساحات العمل الوطني: ولادة وعي مبكر
وُلدت نهاية محمد عام 1948 في مدينة طبريا، في العام نفسه الذي شهد النكبة الكبرى. كان وعيها الأول مشبعًا بروائح الخيام الأولى للتهجير، وبقصص النساء اللواتي حملن البيوت على ظهورهن وواصلن الحياة رغم السقوط المدوي للعالم الذي عرفنه. في طفولتها المبكرة، اختبرت معنى الفقد، وفي شبابها عرفت معنى الثورة، وفي نضجها حملت على كتفيها مهمة مزدوجة: تحرير الوطن وتحرير المرأة.
مع بداية السبعينيات، ومع تصاعد العمل الفدائي، التحقت نهاية محمد بصفوف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، قبل أن تتدرج سريعًا لتصبح عضوًا في اللجنة المركزية للجبهة عام 1973. لم تستند مكانتها إلى موقع تنظيمي فقط، بل إلى قدرتها على التفكير النقدي وصياغة خطاب يربط بين المجتمع والسياسة والثقافة وحقوق الإنسان.
2. امرأة في قلب المعركة… بلا استئذان
لم تكن نهاية ممن ينتظرن الاعتراف أو فتح الأبواب؛ دخلت ساحات العمل الوطني بجرأة كان كثيرون يعتبرونها صادمة في وقت كانت فيه مشاركة المرأة السياسية محدودة أو مقرونة بدور رمزي. لكنها أصرت على أن يكون حضورها فعلًا لا شعارًا.
في أروقة الجبهة الديمقراطية، عُرفت بأنها صاحبة رأي حاد، وصوت صريح لا يساوم. لم تتردد في نقد السياسات الداخلية أو توجيه ملاحظاتها للقيادة، معتبرة أن الحركة الوطنية التي لا تنتقد نفسها محكوم عليها بالركود. وفي الوقت ذاته، كانت ترى أن النضال الوطني يفقد معناه إن لم يشمل الدفاع عن المرأة وكرامتها.
3. بين التحرر الوطني والتحرر النسوي: رؤية لا تفصل بين الجبهتين
في زمن كانت فيه الحركة الوطنية تُعطي الأولوية المطلقة للكفاح ضد الاحتلال، كانت نهاية محمد تقول عبارة أثارت الكثير من الجدل: "لا تحرير لوطن يطلب من المرأة أن تبقى في آخر الصف."
هذه الفلسفة رافقت كل مسيرتها، وكانت قاعدة لعملها النسوي الذي لم يكن ترفًا فكريًا، بل امتدادًا للنضال الوطني ذاته. وعندما شاركت في تأسيس جمعية النجدة لتنمية المرأة, ثم تولّت رئاسة مجلس إدارتها، كانت ترى أن أي مشروع وطني لا يفتح أمام المرأة باب القيادة، هو مشروع مبتور.
وفي الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية – حيث شغلت منصب نائبة الرئيس – دفعت باتجاه بناء أجندة نسوية تُعلي من شأن المشاركة السياسية، وتواجه عقلية "المرأة الناشطة في المناسبات"، وتدعو بدلًا من ذلك إلى "المرأة الفاعلة في القرار".
4. تفكير تحرري… وموقف لا يخضع للمساومة
تميّز خطاب نهاية محمد بنضج سياسي وثقافي. لم تكن ترى الحركة النسوية مجرد مطالب اجتماعية، بل مشروعًا تحرريًا يتكامل مع مشروع التحرر الوطني. وكانت تعتبر أن الاحتلال والفكر الأبوي وجهان لعملة واحدة: قمع، وتهميش، وفرض للسلطة بالقوة أو العرف.
وفي إحدى كلماتها الشهيرة، قالت: "الاحتلال يمنعك من أن تكوني حرّة في وطنك، والمجتمع الأبوي يمنعك من أن تكوني حرّة في بيتك."
هذه الجملة، بكل بساطتها، تلخص فلسفتها: لا يمكن للمرأة أن تقاتل الاحتلال بينما تُقيد في مجتمعها؛ ولا يمكن لشعب يعيش ظلمًا يوميًّا أن يُعيد إنتاج الظلم داخل بيته.
5. مشروع "النجدة"… بناء مؤسسة نسوية لا مجرد جمعية
من خلال "النجدة لتنمية المرأة"، لم تعمل نهاية محمد على تقديم خدمات تقليدية فقط، بل أسست فلسفة مؤسساتية تقوم على:
تمكين المرأة اقتصاديًا وسياسيًا.
نشر ثقافة المساواة عبر برامج التوعية.
دعم النساء المعنّفات ومساعدتهن على استعادة الثقة.
إدماج المفاهيم النسوية في الخطاب الوطني.
تأهيل جيل جديد من الكوادر النسوية داخل المؤسسات.
وقد تركت بصمتها على كل من مرّوا بهذه المؤسسة، حتى أصبحت “النجدة” لاحقًا أحد أعمدة العمل النسوي في فلسطين.
6. رفيقة الثورة وصوت المرأة… في أصعب اللحظات
عرفت نهاية محمد فصول الثورة الفلسطينية في بيروت، ودمشق، وتونس، والضفة وغزة. خاضت تجارب العمل السرّي، والتنظيمي، والعلني. تعاملت مع نساء فقدن أزواجهن وأبناءهن، وأسرى يقاتلون خلف القضبان، ولاجئين يبحثون عن وطن داخل الخيام.
لم تكن قيادية تنظيرية، بل كانت موجودة في الميدان؛ تُنظم الندوات، تشرف على الحملات، وتحمل همّ المرأة الفلسطينية التي تجد نفسها غالبًا ضحية الاحتلال والفقر والتمييز معًا.
7. رحيلٌ ترك فراغًا… وذاكرة لم تغب
عندما رحلت نهاية محمد في 30 حزيران/يونيو 2015، نُظم لها بيت عزاء رسمي حضره قادة الاتحاد العام للمرأة، وقيادات الجبهة الديمقراطية، وناشطات نسويات من مختلف الفصائل. لم يكن ذلك تأبينًا تقليديًا، بل كان اعترافًا بدورها كأحد أهم أعلام الحركة النسوية الفلسطينية في العقود الأخيرة.
بعد رحيلها، كتبت المناضلة آمال حمد عنها: "نهاية كانت عنوانًا مشرفًا للمرأة والثورة الفلسطينية."
وكتبت قيادات الجبهة الديمقراطية: "رحلت جسدًا، وبقي صوتها علامة فارقة في تاريخ كفاحنا."
8. ما الذي يجعل نهاية محمد مختلفة اليوم؟
في وقت يُعاد فيه طرح دور المرأة الفلسطينية في السياسة والمقاومة والمجتمع، تبدو سيرة نهاية محمد أكثر إلهامًا من أي وقت مضى. فهي:
نموذج لامرأة قيادية لم تنتظر شرعية المجتمع، بل فرضتها بعملها.
مناضلة ربطت بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي.
مفكرة نسوية سبقت زمنها في ربط الاحتلال بالبطريركية.
مؤسسة ساهمت في بناء بنية تنظيمية تستمر إلى ما بعد رحيلها.
صوت نقدي داخل الحركة الوطنية، وليس مجرد عضو في صفوفها.
ومع أن كثيرًا من القضايا التي قاتلت لأجلها لا تزال قائمة – مثل تهميش النساء في مواقع صنع القرار، وغياب العدالة الاجتماعية، وتصاعد العنف القائم على النوع الاجتماعي – فإن إرثها يشكّل مصدرًا يمكن البناء عليه، وأفقًا يمكن تجديده.
9. إرثٌ يعلّمنا كيف نقاوم… وكيف ننهض
اليوم، وفي ظل التحديات التي يعيشها الشعب الفلسطيني، من عدوان متواصل، وحصار، وانقسام سياسي، وفقر، وعنف اجتماعي، يبدو صوت نهاية محمد كأنّه نداء من زمن آخر:
"لا تنتظروا تحريرًا خارجيًا بينما قيود الداخل ما زالت قائمة."
إن نساء فلسطين اللواتي يقفن في الصفوف الأولى من المواجهة، اللواتي يقُدن العمل الحقوقي، اللواتي يكتبن ويحملن الجرح والمسؤولية، هنّ الامتداد الحقيقي لهذه المناضلة.
نهاية محمد لم تكن مجرد شخصية تاريخية؛ كانت مشروعًا فكريًا قائمًا بذاته. مشروعًا يرى في المرأة فاعلًا لا تابعًا، وفي الحرية مسارًا مزدوجًا: حرية الوطن وحرية الإنسان. وبينهما، كانت تسير بثبات، مصممة على أن تترك أثرًا يبقى بعد الرحيل.
وقد تركت.