ويتكوف في غزة: زيارة بمظهر إنساني ومضمون استعماري ..!

غزة تختنق، والمجاعة تقضم أجساد الأطفال، والمستشفيات تنهار... لكن إدارة ترامب لا تُبادر لحلٍ حقيقي، بل ترسل مبعوثًا يتجوّل بين الأنقاض باسم "الإنسانية". زيارة ديفيد ويتكوف إلى قطاع غزة ليست تحولًا في الموقف الأمريكي، بل جزء من تكتيك طويل لتجميل الوجه القبيح للدعم غير المحدود للاحتلال الإسرائيلي إنها إدارة للأزمة، لا سعيًا لحلها.
في ظل الكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي يشهدها قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، تتوالى التحركات السياسية الأمريكية والإسرائيلية تحت شعارات "الإغاثة" و"الاهتمام الإنساني"، بينما يتعمّق الواقع المأساوي يومًا بعد يوم.
زيارة المبعوث الأمريكي الخاص، "ديفيد ويتكوف"، جاءت بعد تقارير صادمة عن مجاعة تفتك بالسكان، وتحوُّل غزة إلى ساحة موت بطيء.
غير أن هذه الزيارة لا يمكن فصلها عن السياق العام للسياسات الأمريكية في عهد ترامب وامتداداته، فهي لا تمثل صحوة ضمير بقدر ما تعبّر عن تكتيك دعائي لتحسين صورة واشنطن، فالإدارة الأمريكية، التي منحت الغطاء الكامل للعدوان الإسرائيلي سياسيًا وعسكريًا، تسعى الآن إلى لعب دور المتفرج الحزين بعد أن كانت أحد أبرز المساهمين في إنتاج هذه المأساة.
الحقائق الصادمة، وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الفاو (FAO) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP) في يونيو 2025، فإن أكثر من 1.1 مليون شخص في قطاع غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، فيما بات نحو 495 ألفًا مهددين بالموت جوعًا، خاصة في شمال القطاع، حيث تُمنع الإمدادات بشكل ممنهج.
كما وصف مارتن غريفيثس، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، الوضع بأنه:
"أسوأ أزمة إنسانية شهدها العالم منذ عقود، إذ تواجه الأسر المجاعة والموت، في حين يُستهدف العاملون في المجال الإنساني وتُقصف المراكز الطبية."
في حين أكدت منظمة الصحة العالمية (WHO) أن أكثر من 70% من مستشفيات القطاع خرجت عن الخدمة بالكامل، وأن انتشار الأمراض وسوء التغذية يهددان حياة عشرات الآلاف، معظمهم من الأطفال والنساء.
عندما تصبح الإغاثة غطاءً سياسيًا، فإن زيارة ويتكوف، وما سبقها من تحركات أمريكية محدودة، ليست سوى جزء من سياسة احتواء الانهيار، لا العمل على إنهاء أسبابه، فالتقارير تُستثمر دعائيًا، والمساعدات تُجزأ وتُوظف سياسيًا، فيما يُمنع فتح ممرات آمنة دائمة، ويُغض الطرف عن جرائم الاحتلال.
الولايات المتحدة لا تتحرك لدفع إسرائيل نحو رفع الحصار أو وقف الاستهداف المباشر للمدنيين، بل تكتفي بـإدارة الندوب الناتجة عن جرح لا يزال ينزف. والأسوأ، أن هذه التحركات تُسخّر لتبييض سجل أمريكا الأسود في شراكتها مع الاحتلال، وتقديمها كـ"وسيط محايد"، وهو ادعاء تفضحه الوقائع اليومية على الأرض.
أما نتنياهو، فيُتقن كعادته فن توظيف المآسي. فالمجاعة في غزة، وانهيار النظام الصحي، وتدمير البنية الاجتماعية، ليست نتائج عرضية، بل وسائل لتحقيق هدف أكبر: كسر غزة سياسيًا، وترويضها أمنيًا، وتحويلها إلى كيان هش يخضع للابتزاز المستمر، وتتلاقى هذه الاستراتيجية مع الرؤية الأمريكية، التي تنظر إلى القطاع باعتباره عبئًا يجب إدارته لا تحريره، ومعضلة يجب تفكيكها لا حلها، وساحة لتجريب أدوات السيطرة دون التورط في مشاريع سياسية عادلة.
إن ما تحتاجه غزة ليس زائرًا جديدًا يتفقد الأضرار، ولا عدسات تصور الأطفال الهزلى تحت اللافتات الأمريكية، بل قرار دولي عاجل يُنهي العدوان، ويرفع الحصار، ويُحاسب الجناة على جرائم الحرب والتجويع المتعمد.