تصاعد التوتر في الضفة الغربية: استراتيجية إسرائيلية لفرض وقائع جديدة
تشهد الضفة الغربية منذ أسابيع تصعيدًا عسكريًا ملحوظًا، بالتزامن مع ازدياد وتيرة هجمات المستوطنين على القرى الفلسطينية. هذا التزامن ليس صدفة، بل يعكس استراتيجية واضحة تتبناها الحكومة الإسرائيلية الحالية، بقيادة نتنياهو، وبدعم من بن غفير وسموتريتش، تهدف إلى إعادة تشكيل الضفة الغربية وفرض حقائق جديدة على الأرض.
تستغل إسرائيل انشغال المنطقة والعالم بتداعيات الحرب في غزة لتغيير قواعد اللعبة في الضفة الغربية، وذلك من خلال تنفيذ اجتياحات متكررة، وتدمير واسع للبنية التحتية، وانتهاج سياسات العقاب الجماعي، وتشديد القيود على حركة الفلسطينيين. هذه الإجراءات تهدف إلى إضعاف قدرة المجتمع الفلسطيني على الصمود، وتهيئة الظروف لتوسيع المستوطنات وفرض السيطرة الإسرائيلية. بالتوازي مع ذلك، أصبح عنف المستوطنين جزءًا لا يتجزأ من هذه السياسة، حيث يشنون هجمات منظمة على القرى، ويحرقون الممتلكات، ويهجرون العائلات في المناطق المصنفة “ج”، مما يسهل عملية توسيع المستوطنات وربطها جغرافيًا.
يحدث هذا في وقت يعيش فيه الفلسطينيون حالة ضعف متعددة الأبعاد، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، اقتصاديًا وسياسيًا. فالسلطة الفلسطينية تواجه ضغوطًا مستمرة لتطبيق ما يسمى بـ “الإصلاحات”، والتي من شأنها أن تزيد الفجوة بينها وبين حاضنتها الشعبية، وتبعدها تدريجيًا عن الفصائل الفلسطينية المختلفة التي تمثل مكونات النظام السياسي الفلسطيني. هذه السياسات لا تضعف فقط شرعية السلطة داخليًا، بل تقوض أيضًا قدرتها على مقاومة الضغوط الإسرائيلية، في ظل بيئة دولية تمنح إسرائيل هامش تحرك أوسع وتدعم ضمنيًا استمرار الوضع الراهن. بالتالي، يندمج الضعف الداخلي مع تأثير الضغوط الخارجية ليخلق حالة من العجز المتزايد أمام الاستراتيجيات الإسرائيلية في الضفة.
يكتسب هذا التصعيد بعدًا سياسيًا إسرائيليًا داخليًا واضحًا، فهو بمثابة ثمن تدفعه الحكومة الإسرائيلية لليمين المتطرف لضمان بقاء الائتلاف الحاكم. فالحرب على غزة أفرزت فرصة استثنائية لهذا اليمين: بدءًا من احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض وما يوفره من دعم سياسي واسع لإسرائيل، مرورًا بانشغال دولي يمنح إسرائيل هامش حركة كبير، وانتهاءً بحالة الضعف الفلسطيني نتيجة الانقسام والعجز المؤسسي والضغط الاقتصادي. ففي نظر بن غفير وسموتريتش، هذه لحظة تاريخية يجب استثمارها لفرض وقائع تمهد لضم فعلي غير معلن للضفة.
ما يجري في الضفة الغربية اليوم ليس مجرد تصعيد عسكري ظرفي، بل هو تنفيذ متدرّج لمشروع ضمّ زاحف.
بالإضافة إلى ذلك، يتيح هذا المسار للحكومة الإسرائيلية فرصة لعرض “إنجازات” على جمهورها اليميني، بدءًا من تقويض ما تبقى من سلطة فلسطينية وتحويلها إلى هيئة إدارية بلا صلاحيات، وصولًا إلى توسيع المستوطنات وفرض السيادة الإسرائيلية على مساحات أوسع. أما من الناحية الأمنية، فتسوق إسرائيل خطاب “منع تمدد نموذج غزة إلى الضفة”، فيما تظهر الإجراءات أن الهدف الحقيقي ليس الاحتواء الأمني، بل إخضاع الضفة وإعادة هندسة المشهد الفلسطيني بما يخدم مشروع اليمين الاستيطاني.
إن هذا الواقع المرير يعيد تشكيل البعد الدولي للصراع، حيث تقوض السياسة الإسرائيلية حل الدولتين الذي لطالما شكل الإطار المقبول دوليًا، خاصة في ظل الانسجام الجزئي بين الحكومة الإسرائيلية الحالية ورؤية إدارة ترامب، التي عبرت في مناسبات عدة عن تفضيل بدائل عن حل الدولتين ورفضته صراحة، وهو ما يسهل على إسرائيل فرض واقع جديد على الأرض، بعيدًا عن إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة ويعمق السيطرة الإسرائيلية على الضفة.
في النهاية، ما يجري في الضفة الغربية اليوم ليس مجرد تصعيد عسكري ظرفي، بل هو تنفيذ متدرج لمشروع ضم زاحف تستخدمه دولة الاحتلال والمستوطنين معًا لإعادة صياغة الواقع، بما يجعل أي حل سياسي مستقبلي أكثر صعوبة ويهدد فرص التمكين السياسي للفلسطينيين. على الفلسطينيين أن يدركوا أن الفرصة لإنقاذ مستقبلهم الوطني والسياسي تتقلص بسرعة، وأن أي تقاعس قد يجعل من قدرتهم على حماية الأرض والحقوق الوطنية مجرد ذكرى، فيما تستكمل محاولات فرض وقائع نهائية على الأرض.