طفولتنا بين زواريب المخيم
Sat 04 October 2025

كبرنا في زواريب المخيم، وحفظنا طرقاته وزواريبه كما يحفظ المرء اسمه.
بكلّ بساطة، عشنا قصصاً وحكايات، لعبنا ألعاباً كثيرة، لم يكُن الهاتف جزءاً منها. طفولة تتسمّ بأقلّ الإمكانات، فلا ألعاب باهظة الثمن، ولا دراجات هوائية، فقط بساطة في كلّ شيء.
كلّ لعبة لها قصتها، وأول ألعابنا "الأكس" وهو عبارة عن تسعة مربعات مرسومة على شكل صليب، القواعد في اللعبة أن نرمي بلاطة من أول مربع حتى آخره ونقفز فرحاً باستحواذ أكبر عدد من المربعات.
إحدى الألعاب التي أعشقها، اللعب بالطين والتراب الأحمر، حيث كنتُ أقوم بعجن التراب بالماء وتحويله إلى مكعبات طينية، تارةً أصنعُ سيارة تارةً أصنع دبابة، تارة أحوّلها إلى ما يشبه الحلوى.
أمّا لعبة الكُلل الزجاجية، فكانت تسليتنا في بعض الأوقات. وكنتُ دائماً أختار الكُلل الجميلة الألوان، أو البيضاء. لم يكُن هناك فرق بين الصبية والفتيات، فالكلّ يلعب، إمّا خاسراً وإمّا رابحاً.
واللعبة التي كانت مفضّلة عند الجميع هي "الغُمّيضة"، حيث كنّا نختبئ خلف الجدران، تحت الأدراج، وراء الأبواب، على الأسطح، وما أكثر المشاكل عندما يفقد الذي يغمض عينيه الصبر ويُعلن انتهاء اللعبة لعدم قدرته على إيجاد الجميع بل و"الزعبرة" عند البعض في الخروج وضرب الحائط بالكفّ مُعلنين نجاحهم في قدرتهم على الاختباء.
وأجمل لعبة عندي كانت الأرجوحة، حيث كنت أربط حبلاً من مادة النايلون المُقوّى بين شباكين أو حديدتين حيث أستطيع أن ألفّ بطانية بشكل مُعاكس، وأغوص في البطانية وأدفعها يميناً ويساراً حتى أغفو. كنتُ أجدُ لذّة بالدوخة التي تُشعرني إياها الأرجوحة التي صنعتها.
لم تكُن قدرة والدي المادية بشيء يُذكر، ولكنّه كان يشتري لي ولأختي، هو وأمّي هديّة يوم العيد، وهي ككل عام دُمية متواضعة، لا تنفكّ عندي سوى لبضعة أيام فتبدأ بخسارة قدمها، ثم ذراعها، ثم رأسها وعينيها، حتى لا تعود لها ملامح.
كانت لعبة “الباربي” بعيدة المنال، غالية الثمن لا نستطيع اقتناءها. عندما كبرتُ قاطعتُ هذه الدّمى التي تُرسّخ في أدمغة الفتيات مفاهيم جمالٍ مغلوطة، فالجمال ليس شقاراً وعيوناً زرقاء وقدّاً ممشوق، الجمال جمال الرّوح والأخلاق، ومعايير الجمال هي معايير حسب ما يراها الشخص، كلٌّ من منظاره وعينيه وروحه. فالجمال كما يُقال هو عينُ الناظر.
حينما تكبُر خارج المخيم، فإنّك تعيش طفولة مختلفة، حيث مثلاً جزء من طفولتي عشته في تجمّع وادي الزينة (إقليم الخرّوب)، كانت طفولة عبارة عن قفز على الصخور خلف منزلنا، والغوص في العشب الأخضر الذي لا زالت رائحته في أنفي، وجمع أكواز الصنوبر من "الحرش" مقابل البحر، والقفز على تلال الرّمال التي كانت تمتد على شواطئ الرميلة، كما السباحة هناك على وبين الصخور وفي "الأجران" الصخرية، وتسلّق أشجار السنديان والتين عند الجيران.
ليس هناك حدود لمخيلة طفلٍ يعشق التراب، والشجر، والبحر، والرّمل. كلّها لا تزال عالقة في ذاكرتي كأنها الأمس.
أكثر الألعاب خطورة كانت العربة الخشبية و هي خشبة على دواليب حديدية حيث كان إخوتي يصنعونها لننزل بها أحد شوارع وادي الزينة التي تمّ تزفيتها حديثاً. المقود مصنوع فقط لإدارة الخشبة يميناً أو يساراً، بدون فرامل وبدون أدنى مقوّمات السلامة. وكم من مرّة انقلبت بنا وباتت الجروح والخدوش تغطي أيدينا وأرجلنا.
ولعبة أخرى تحبّها الفتيات وهي "الزقطة"، خمسة أحجار صغيرة علينا أن نلتقطها واحدة تلو الأخرى، حجر، حجران، ثلاثة، أربعة، ثم خمسة أحجار في "كمشة" واحدة. والصعوبة تكمن في التراتبية وجمع الأحجار، أمّا الحركة الأكثر صعوبة فهي أن تقلب كفّ يدك لتقع الأحجار على يدك مقلوبة. كم قضينا الساعات ونحن نلعبها.
ولعبة "النطّ على الحبل"، والتي هي عبارة عن "مغيّطة" مربوطة بشكل دائري، ولكنّها تتحوّل إلى شكل مستطيل حيث تقف فتاتان مقابل بعضهما، وتشدّان الحبل. ثمّ تكون هناك فتاة في المنتصف وعليها أن تقفز على الحبل من جهة إلى جهة، تكون "المغيّطة" أولاً على مستوى منخفض ثمّ ترتفع مع كل نجاح في القفز.
في المخيم، هناك حيث طفولتنا، لم نكُن نعلم شيئاً عن حقوقنا المسلوبة، براءتنا كانت كفيلة برسم سعادة لا تنتهي إلا مع غروب الشمس، وليس مع أحلامٍ غير قابلة للتحقيق.
كم أشتهي قطعة "الهيطلية" ذات اللون الزهري على ورقة، وكم أتوق لطعم "النّعومة" في فمي، وأشتهي تلك قطع "الجاتو" المحفوظة بصندوقٍ خشبيّ ذات واجهة زجاجية، لم يزل طعم الكريمة عالقاً تحت لساني.
تعلقُ في ذاكرتنا رائحة معينة، وطعم معيّن، ونصبح في وضع مقارنة بين الماضي والحاضر، فما أجمل زواريب المخيم عشية العيد حينما تفوح من بيوت الجميع رائحة الكعك والخبيز! كم هي ثمينة تلك الذكريات التي تجدُ طريقاً إلى الظهور مع كلّ رائحة تركت أثراً في الذاكرة!
ومع كلّ طعمةٍ اختبرناها في الطفولة، فعلقت ولم تعُد تغادرنا.
*الهيطلية: مزيج من السميد مع السكر، يُعدّ ليقطّع عند تبريده على شكل مكعبات أو معيّنات تُباع للأطفال على أبواب المدارس على ورقة.
*النّعومة: هي حمّص محمّص، يُطحن ناعماً ثم يُضاف إليه السّكر الناعم. يُوضع في عُلب صغيرة مثل عُلب الثوم ويُباع للأطفال.