مَنْ رئيس "الشاباك"؟.. اسألوا سارة والحاخامات !

في خضم التصدعات العميقة التي خلّفها زلزال السابع من أكتوبر داخل مؤسسات الدولة الإسرائيلية، تتكشف اليوم أزمة بنيوية في العلاقة بين المستوى السياسي وجهاز الأمن العام (الشاباك). هذه الأزمة لا تقتصر على التوتر الطبيعي بين السياسيين والجهاز الأمني، بل تمتد لتكشف عن انقلاب تدريجي في موازين القوة داخل إسرائيل،حيث تتحوّل اعتبارات الولاء السياسي والعائلي إلى معايير لتعيين رأس الهرم الأمني الداخلي، في سابقة تهدد بتقويض ما تبقى من توازنات "الدولة العميقة".
من الناحية القانونية، الشاباك هو هيئة أمنية مستقلة، تخضع مباشرة لرئيس الحكومة، لكنها لا تُدار بإرادته المطلقة. فبحسب القانون الإسرائيلي، يخضع تعيين رئيس الشاباك لمصادقة لجنة تعيين كبار الموظفين (لجنة غرونيس)، ويُنتظر في العادة تنسيق مسبق مع المستويات الأمنية والعسكرية، وعلى رأسها رئيس الأركان.
لكن على مدار عقود، ظلّت العلاقة بين الشاباك والمستوى السياسي تحكمها معادلة دقيقة: احترام متبادل مشوب بالحذر. فالساسة، وإن كانوا يحتكمون نظريًا إلى سلطة التعيين، أدركوا دومًا أن تجاوزهم للجهاز أو استهدافه قد يكلّفهم سياسيًا وأمنيًا، بل قد يتحول إلى خطر على استقرارهم.
تاريخيًا، تمتع جهاز "الشاباك" بهيبة كبيرة داخل المنظومة السياسية الإسرائيلية، بل وصل الأمر إلى حدّ أن رؤساء الحكومات كانوا يتعاملون مع قادته بحذر بالغ، يصل أحيانًا إلى حدّ الخوف. إسحق رابين، على سبيل المثال، كان يُكنّ احترامًا كبيرًا لرئيس الشاباك، ويفضّل الاطلاع على تقاريره الاستخبارية قبل أي مصدر آخر. أما أرئيل شارون، فعرف كيف يستميل الشاباك سياسيًا دون تجاوزه مهنيًا. وحتى نتنياهو نفسه، في ولاياته الأولى، كان يعرف حدود اللعبة مع هذه المؤسسة المتجذرة في بنية الدولة العميقة.
لكن هذا التوازن بدأ بالاهتزاز منذ تعاظم نفوذ نتنياهو، وتحديدًا مع صعود مشروع "الثورة القضائية" عام 2023، والذي دخل معه جهاز الشاباك في حالة من التوتر المكتوم مع الحكومة.
هذا التوتر انفجر تدريجيًا بعد السابع من أكتوبر، حيث بات الشاباك متهمًا – ضمنيًا أو صريحًا – بالإخفاق في إحباط الهجوم المفاجئ، فبعد عملية السابع من أكتوبر، تصدّع جدار الثقة بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس الشاباك رونين بار. هذا التصدع لم يكن وليد اللحظة، بل تعمق مع اتساع الشرخ بين الحكومة والمؤسسات الأمنية على خلفية خطة "إصلاح القضاء". فرونين بار كان من أبرز المعارضين لتحويل إسرائيل إلى نظام سلطوي، وأصدر مواقف متكررة تحذر من تآكل الاستقرار الداخلي.
وفي المقابل، نظر نتنياهو إلى هذه المواقف باعتبارها تحديًا سياسيًا مقنّعًا في ظل الحرب، وبدأ بالبحث عن بديل لرونين بار، رغم أن بار أعلن نيته للاستقالة بعد تحمله فشل السابع من أكتوبر، ولكن كان واضحاً أن نتنياهو يريد إعلان سيطرته على الشاباك.
في هذا السياق، اتجه نتنياهو بالبداية إلى تعيين الجنرال إيلي شربيت، المعروف بعلاقاته القوية داخل المؤسسة العسكرية، رئيسًا جديدًا للجهاز، لكن سارة نتنياهو، إلى جانب دوائر يمينية مؤثرة، أبدت معارضة شديدة لهذا التعيين، نظرًا لموقف شربيت المتحفظ من خطة "الإصلاح القضائي". ووفقًا لتقارير صحفية عبرية، مارست هذه الدوائر ضغوطًا مباشرة أثمرت عن تراجع نتنياهو عن قراره، في مشهد يعبّر بوضوح عن حجم التأثير الذي بات للعائلة في صياغة القرارات الأمنية الحساسة.
في كل الدول الديمقراطية، يُعدّ تعيين رئيس جهاز أمني بحجم "الشاباك" خطوة سيادية تُدار وفق مسارات قانونية واضحة ومحكومة بحساسية التوازن بين المؤسسات. لكن في إسرائيل نتنياهو، لا تُدار الأمور من مقارّ الدولة، بل من الصالون المغلق في شارع بلفور، حيث الكلمة العليا لا تعود لرئيس الحكومة بقدر ما تُنسب لزوجته سارة، السيدة الأولى غير المُنتخبة، التي باتت اليوم تُقرّر من يجلس على رأس الهرم الأمني الأخطر في إسرائيل.
في نهاية المطاف، وقع اختيار نتنياهو على الجنرال دافيد زيني، الذي حتى لحظة الإعلان عن ترشيحه كان ضابطًا في هيئة الأركان، بل علم رئيس الأركان ايال زامير بالتعيين قبل دقائق فقط من الإعلان عنه، في تجاوز صريح للعرف العسكري القاضي بأن التواصل مع أي ضابط يتم عبر رئيس الأركان للجيش، لا فوقه.
لا يمكن فهم هذا المشهد دون التطرق إلى الدور المحوري الذي تؤديه سارة نتنياهو، زوجة رئيس الحكومة، التي طالما وُصفت بأنها صاحبة الكلمة الفصل في التعيينات الحساسة، كان لها دورٌ مركزي في اختيار زيني
الأمر الذي يفتح الباب أمام تساؤلات غير مسبوقة في تاريخ الأجهزة الأمنية: هل باتت التعيينات الأمنية تخضع لمعايير الولاء العائلي؟
فالعلاقة التي تربط شقيقي ديفيد زيني بعائلة فاليك الأمريكية – الداعمة للاستيطان والمرتبطة بعلاقات وثيقة مع سارة نتنياهو – ليست تفصيلاً صغيرًا. هذه العائلة تُعد من ممولي مشاريع أيديولوجية ترتبط مباشرة بمصالح حكومة نتنياهو، وسارة كانت على صلة شخصية ببعض أفرادها، بما في ذلك حضور فعاليات خاصة وجولات ميدانية تم توثيقها بصور مسرّبة.
من هنا، فإن دور سارة لا يقتصر على الضغط داخل الغرف المغلقة، بل يشمل التأثير المباشر في توازنات القوة داخل الأجهزة الأمنية. وهو أمر لم يُسجّل في عهد زوجات رؤساء حكومات سابقين، بل إن سارة نتنياهو، فقد أصبحت -بحسب تعبير محللين إسرائيليين- "وزيرة بلا حقيبة" في كل ما يتعلق بالتعيينات والمصالح الجوهرية، خاصة في فترة ما بعد الثورة القضائية، حيث سعى نتنياهو لتضييق الخناق على الأصوات المهنية المستقلة داخل الشاباك والجيش، وفي ذات الوقت استخدم سارة إلى عنصر بنيوي في هندسة الإدراك الجماهيري. وفقًا للدكتورة الاسرائيلية ليراز مارجليت ، نتنياهو يستخدم "تأثير الطُعم" من علم النفس الاجتماعي، بحيث تظهر سارة كشخصية مثيرة للجدل أو متطرفة، فيبدو هو أكثر عقلانية واعتدالًا بالمقارنة. بهذا، يتمتع بهامش مناورة أوسع في اتخاذ قرارات مثيرة للجدل – كتعيين ديفيد زيني – من دون أن يتحمل تبعات نقدية كبيرة.
ففي كل مرة تتصدر سارة العناوين أثبتت دراسات إسرائيلية، أن تغطية القضايا الأمنية والاقتصادية تنخفض بنسبة 30% . في هذه الحالة، يصبح وجودها نوعًا من "الدرع البشري الإعلامي"، يسمح لنتنياهو بالتحرك خلف ستار من الضجيج العاطفي.
في كل الأحوال، إن تعيين ديفيد زيني ليس مجرد تغيير في قيادة الشاباك، بل هو إعلان عن خضوع آخر حصون الدولة العميقة. الخطر هنا مزدوج: تحويل الجهاز إلى أداة أيديولوجية وشخصية.
أيديولوجياً، يُخشى أن يتحول الشاباك تحت قيادة زيني، ابن الصهيونية الدينية، من كابح للإرهاب اليهودي إلى خادم لمشروع ضم الضفة الغربية.
وشخصياً، فإن طريقة التعيين تجعل من زيني أسيراً لنتنياهو، مما يضع قدرات الجهاز الهائلة في خدمة صراعاته القانونية والسياسية، بعد أن رفض سلفه توظيفها ضد خصوم رئيس الوزراء.
في المحصلة، لم تعد الأزمة حول من يرأس الشاباك، بل حول ما سيتبقى من استقلاليته. فبين أجندة اليمين المتطرف ومصالح نتنياهو الشخصية، يقف الشاباك، الذي لطالما اعتبر خط الدفاع الأول عن إسرائيل، رهينة موازين سياسية وعائلية لا علاقة لها بالكفاءة.
وهكذا، فإن سارة، التي لطالما اتهمت "الدولة العميقة" بملاحقة عائلتها، باتت هي اليوم تجسيداً لدولة عميقة جديدة، تصل سلطتها إلى حد تعيين من يقود أخطر جهاز أمني. ومع هذا التعيين، تدخل إسرائيل عهداً لا تحكمه القوانين والأعراف المؤسسية، بل "العائلة".