خيوط تنسج حكايا اللجوء
Sat 09 August 2025

قطعة قماش، إبرة، وخيوط ملونة وتخرج من بين يديها تحفة فنية تراثية.
التطريز الفلسطيني حكاية شعب، كلّ قطبة وكلّ قطعة تحمل قصة.
قصة أم حسن، صاحبة أنامل مُتعبة ومُرهَقة بتطريز الاف القطع والأثواب.
تقضي لياليها تطرّز نقشات جميلة مستوحاة من شجر السرو، العنب، الأقحوان، المفتاح، القفل، المشط، نجمة البحر ، الحمامة، العين، المنجل، عدا عن الأشكال الهندسية المختلفة.
لن أدخل في تفاصيل كل مدينة وتطريزها المختلف، وما تعنيه من رموز تجسّد القوة، الجمال، والصمود.
إن اللاجئات في الشتات دمجنَ التقشات ونوّعنَها بشكل جمالي مُتقن ومُبدع، وهذا الإبداع وليد ردّة الفعل على محاولات العدّو الص ه ي و ني سرقة التراث الفلسطيني، وأسلوب دفاعي في تكوين وترسيخ الهوية الفلسطينية.
إنّه صراع على الهوية كما على الأرض، فنحن بمواجهة عدو بلا هوية وبلا تاريخ، يحاول أن يسرق طعامك وينسبه إليه، أن يسرق لباسك وينسبه إليه، يحاول تدمير حضارتك وطمثها حتى تصبح بلا تاريخ.
أذكرُ أحد البرامج الإذاعية (البودكاست) التي يديرها أحدهم واستضاف مستوطن كبير في السن، يستذكر معه كيف حضر إلى فلسطين، ويقول بالحرف الواحد بأنّه كان مُعارضاً لهدم البيوت التراثية الفلسطينية، وأنّها بيوت أثرية ينبغي ان يستفيدوا منها، ولكن هناك صوت بينهم يدعو إلى هدمها حتى لا يكون للفلسطينيين أيّ أثر. ثمّ يستذكر كيف أحضروا أشجار الصنوبر إلى فلسطين وزرعوها بشكل كبير لتغطي وتقتل أشجار الزيتون، إنّهم يكرهون شجر الزيتون، لذلك تراهم يقطعونها ويحرقونها. عندما عرفتُ هذه المعلومة بدأت أكره الصنوبر وأكره أكله.
شيخة سيدة التطريز، كلّما رأتني لمعت عيونها محبةً، أستمع لحديثها ولقصصها، تُخبرني عن تصاميمها وأحلامها، وأنا أنصت لكلّ حرفٍ تقوله "في المشغل ننكبّ على إنهاء عشرات القطع، ونَُشرف على تنظيف القطع أيضاً التي نستلمها من السيدات في المخيمات، نحاسبُ السيدات على القطبة الواحدة"، أقاطعها :" لهذا سعر القطعة مرتفع؟" فتجيب قائلةً:" إنّ كلّ قطعة صُنعت أخذت وقتاً طويلاً، عملت السيدة على إنهائها وفق تصاميم معينة، ولا زلنا نعتمد عباءات ذات تراث فلسطيني قديم، لا للتحديثات التي تلغي قيمة الثوب التراثية." لشيخة قصة طويلة سأسردها لكم لاحقاً.
هنا سأتوقف قليلاً حول جدال بين شخص يؤيد مواكبة الموضة وشخص يريد أن يحافظ على هوية العباءة كعباءة فلسطينية تقليدية.
أنا أجدُ أنّه من المهم أن نواكب العصر وتغييراته، وأن نصنع ما يلائم فتيات هذا العصر، من تغييرات في القصة والتصميم ليبدو عصرياً، ولكن من جهة ثانية علينا أن نحافظ على الثوب التقليدي كما هو.
خلال الخمس سنوات الأخيرة عكفت العائلات الفلسطينية في الشتات على إحياء ليلة الحنّة للعروس بشكل يعكس أهمية هذه الليلة، ولكنها في رأيي أتت ردّاً على السرقات الصهيونية للتراث الفلسطيني، لم يسلم الثوب من سرقاتهم، لم تسلم الزغاريد من نهبهم، حتى بتنا نحاربهم بكلّ وسيلة، وصرنا نتمسك بأمور كنّا نعتبرها من المُسلّمات أو لم نكُن نهتم لها على اعتبار أنّها أمور عادية من تراثنا.
بعد أسبوعين ستكون ليلة الحنّة لابنة اخي، فكانت رحلتنا طويلة مع اختيار أثواب ذات تطريز فلسطيني. بدأت جولتنا في مخيم عين الحلوة، وأسواق صيدا القديمة، وانتهت بالتسوّق عبر الأونلاين.
الأثواب ذات التطريز الفلسطيني اليدوي مرتفعة الأسعار وتجعلنا غير قادرين على اقتنائها، حيث أنّ سعر ثوب واحد يصل لمئتين وثلاث مئة دولار وهو الحدّ الأدنى للأجور في لبنان. لذا مِلنا للأثواب ذات التطريز السوري والصيني والتي يبلغ سعرها بين ٢٠ إلى ٤٠ دولاراً كحدّ أقصى.
لقد وصلَت ِالصين في تقليد الثوب الفلسطيني لشيء خرافي، وهذا ما عزّز وجود الأثواب بشكل كبير بين الفتيات بأسعار يستطيع الجميع اقتناءها، هذا الشق إيجابي ولكنّه من ناحية أخرى يؤذي بشكل مخيف ويهدد رزق مئات العائلات الفلسطينية في مخيمات اللجوء، هذه العائلات التي مصدرها محدود من التطريز. كلّ قطبة لها ثمنها، وتمثل كل قطبة حكاية لاجئة، لاجئة تغزل ثوباً قطبة قطبة وتختار تصميم القطب وفق المناسبة.
قد تستغربون للحظة بأنّ والدتي لم يكُن لديها ثوب فلسطيني، ولم أرَها يوماً تلبسه، فاللجوء والحروب والانتقال من مكان إلى آخر لم يجعلها يوماً تشتري ثوباً فلسطينياً غالياً لأنّه كان هناك أولويات لثمانية أطفال أهم من ثوب تلبسه مرّة واحدة لمناسبة واحدة.
"مودرنايزنج" الثوب الفلسطيني التراثي بات له معجبيه ومعجباته، فتصميم الثوب صار بشكل عصري، مذيّل بتطريز يدوي بديع، فستان بخصر جميل، دون أكتاف، فلو عدنا لنموذج الثوب الأصلي لوجدناه فضفاضاً وملفوف بمنديل حول الخاصرة دون تعرٍّ أو تضييق، حتى إنه لا يوجد فتحة كبيرة عند الرقبة بل قصّة صغيرة على شكل سبعة لا تظهر أيّ شيء من الرقبة.
الشال يغطي الشعر ويُثبت بدبابيس ليترك الشعر منسدلاً على الأكتاف أو تظهر الجدائل الطويلة من تحت الطرحة.
في انتظار ليلة الحنّة لعروس عائلتنا، في انتظار إحياء ليلة تراثية فلسطينية في أحضان قرية لبنانية، نحن اللاجئات سنكون جدّات يوماً ما لأجيال قادمة، نخبرهم قصة الثوب، الذي يتداخل ضمن قطباته حكايا اللجوء في الشتات، سنزغرد الآويها وسنزفّ عروستنا الجميلة نجوى، ونقول:
على الدلعونا وع الدلعونا
زيتون بلادي أطيب ما يكونا
زيتون بلادي واللوز الأخضر
والميرامية ولا ننسى الزعتر
وأقراص العجّة لما تتحمّر
أطيب طعمتها بزيت الزتونا
خبزة ملتوتة وجبنة طرية
وأكلة تدفينا بهالشتوية
وصحون السحلب والهيطلية
خلتنا ننسى بردات كانونا
ويا رب تشتي ونلبس طاقية
ونلبس كبّوت ونحمل شمسية
ونغني سوا يا فلسطينية
خبز بلادي خبز الطابونة
على الدلعونا وع الدلعونا
زيتون بلادي أطيب ما يكونا
قطبة وراء قطبة وسننسج الآف الحكايا، حكايا لاجئات بين أثواب التاريخ، خيوط الأثواب ستنسج قصة شعبٍ مُقاوم لا يعرف معنى الاستسلام وإن كان في المنفى.
ثوبنا الفلسطيني ليس قطعة قماش، إنّه حكاية شعب، يأبى أن يتخلّى عن أرضه، عن كرامته، عن تاريخه.