حلّ الدولتين بين شرعية دولية متجددة ورفض إسرائيلي–أمريكي

شهدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين حدثًا سياسيًا بارزًا، تمثل في انعقاد مؤتمر دولي حول حل الدولتين برئاسة سعودية–فرنسية، في لحظة سياسية بالغة الدقة.
المؤتمر جاء ليعيد وضع حل الدولتين على رأس جدول الأعمال الدولي بعد أن كاد يتلاشى تحت ركام الاستيطان الإسرائيلي والحروب المتكررة على غزة، وليؤكد أن المجتمع الدولي لم يتخلَّ عن رؤيته لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، عاصمتها القدس الشرقية.
نتائج المؤتمر: اعترافات واصطفاف متزايد
أبرز ما ميّز المؤتمر هو اتساع رقعة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. فقد أعلنت دول وازنة مثل بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال انضمامها إلى ركب الاعتراف الرسمي بفلسطين، فيما أكدت فرنسا أنها ماضية في خطوات الاعتراف، وهو ما شكّل تحولًا نوعيًا في مواقف حلفاء تقليديين لإسرائيل، حيث سيصل عدد الدول إلى مئة وتسع وخمسين دولة.
كما شدد المؤتمر على رفض الاستيطان الإسرائيلي واعتباره عقبة أساسية أمام أي سلام عادل، داعيًا إلى وقفه الفوري وملوحًا بآليات متابعة وضغط لم تُطرح بجدية من قبل.
وثيقة “إعلان نيويورك” التي صدرت عن المؤتمر رسمت ملامح خطة زمنية مدتها 15 شهرًا لإطلاق عملية سياسية جدية، تشمل إصلاحات فلسطينية داخلية وضمانات دولية لمتابعة التنفيذ.
هذا الإطار الزمني يعد تطورًا مهمًا مقارنة بالخطط السابقة التي كانت مفتوحة الأمد وتفتقد إلى آليات إلزامية.
أهمية المخرجات: شرعية سياسية متجددة
تجديد الشرعية السياسية والقانونية لفكرة حل الدولتين يمثل بحد ذاته إنجازًا للفلسطينيين. فالمؤتمر لم يكتفِ بالبيانات العامة، بل أسفر عن خطوات عملية في اتجاه الاعتراف وتوسيع الحاضنة الدولية للدولة الفلسطينية، هذا التطور يعزز الموقف الفلسطيني دبلوماسيًا وقانونيًا، ويوفر أدوات إضافية لمواجهة السياسات الإسرائيلية في المحافل الدولية، بما فيها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
أن الاصطفاف الجديد لبعض الدول الغربية إلى جانب الاعتراف بفلسطين يُحدث توازنًا سياسيًا يخفف من هيمنة الموقف الأمريكي الداعم بلا حدود لإسرائيل. ومع أن واشنطن ما تزال ترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية خارج المفاوضات، إلا أن موجة الاعترافات المتزايدة تجعل موقفها أكثر عزلة على الساحة الدولية.
التحدي الإسرائيلي–الأمريكي
في المقابل، جاء الرد الإسرائيلي سريعًا ورافضًا لما اعتبرته “محاولة فرض تسوية من الخارج”. حكومة نتنياهو شددت على أن أي حل يجب أن يمر عبر المفاوضات المباشرة، بينما تواصل تكريس سياسة الضم الزاحف عبر الاستيطان.
أما الولايات المتحدة، ورغم مشاركتها الشكلية في المؤتمر، فقد أكدت مجددًا أنها لا تدعم الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية، متمسكة بدور “الوسيط” الذي فقد الكثير من مصداقيته في نظر الفلسطينيين والعالم.
هذا الموقف المزدوج، رفض إسرائيل الصريح وتغطية واشنطن المستمرة، يضع العقبات الأبرز أمام أي تقدم فعلي. فبدون أدوات ضغط حقيقية، لن تُجبر إسرائيل على تغيير سلوكها، خاصة في ظل حكومة يمينية متشددة ترى في الضفة الغربية “جزءًا من أرض إسرائيل التاريخية”.
رغم هذه التحديات، فإن المؤتمر فتح نافذة سياسية يمكن البناء عليها.
أولًا، الاعترافات الجديدة تُراكم زخمًا دبلوماسيًا، وتضعف مبررات إسرائيل بأن فكرة الدولة الفلسطينية غير واقعية.
ثانيًا، وضع إطار زمني واضح يتيح للمجتمع الدولي قياس التقدم والضغط على الأطراف بدلًا من إدارة الصراع إلى ما لا نهاية.
ثالثًا، فإن رعاية سعودية–فرنسية للمؤتمر تعكس دخول أطراف عربية وأوروبية أكثر فاعلية على خط التسوية، بما يخفف من احتكار الولايات المتحدة للملف.
غير أن هذه الفرص تظل مشروطة بعوامل ثلاثة أساسية:
1. الوحدة الفلسطينية الداخلية: استمرار الانقسام بين غزة والضفة يقوّض الموقف الفلسطيني ويُضعف القدرة على استثمار الزخم الدولي. المطلوب اليوم قيادة موحدة وخطة سياسية واضحة تترجم الاعترافات إلى واقع عملي.
2. آليات متابعة دولية ملزمة: لا يكفي الاعتراف السياسي، بل يجب أن يقترن بآليات مراقبة وضغوط اقتصادية ودبلوماسية على إسرائيل، بما في ذلك ربط التعاون الاقتصادي الأوروبي والدولي بوقف الاستيطان.
3. حماية المسار من الانزلاقات الأمنية: التصعيد في غزة والضفة والقدس قد يُستغل إسرائيليًا وأمريكيًا لتقويض أي تحرك سياسي، وهنا تبرز الحاجة لآلية أمنية دولية مؤقتة تحمي المدنيين وتمنع إسرائيل من استغلال ذريعة “الأمن” لمواصلة الاحتلال.
ختاما نقول: إن مؤتمر الأمم المتحدة الأخير برئاسة سعودية–فرنسية أعاد إحياء حل الدولتين، ومنح الفلسطينيين دفعة سياسية وقانونية طال انتظارها.
هو ليس ضمانة مباشرة لإقامة الدولة، لكنه خطوة استراتيجية تكسر الجمود وتضع إسرائيل في مواجهة عزلة دولية متنامية.
ومع ذلك، فإن نجاحه يتوقف على مدى قدرة الفلسطينيين على توحيد صفوفهم، واستعداد المجتمع الدولي لترجمة أقواله إلى أفعال، بما في ذلك استخدام أدوات الضغط والعقوبات عند الحاجة.
إن ما بين الممكن والمستحيل مسافة تحددها الإرادة السياسية الدولية، والإصرار الفلسطيني على استثمار اللحظة التاريخية.
فإذا استمر الاستيطان بلا رادع، وظلت واشنطن توفر الحماية الدائمة لإسرائيل، فإن حل الدولتين سيتلاشى كخيار عملي.
أما إذا تحولت نتائج المؤتمر إلى خطة عمل ملزمة، فقد يكون سبتمبر 2025 محطة فارقة تفتح الطريق نحو إنهاء أطول احتلال في العصر الحديث.