الغرفة التي لم تقصف بعد

في غزة، لا توجد امرأة لم تعرف معنى الفقد.
البيوت هناك ليست جدرانا فقط، بل سجلات من الوجع.
كل زاوية تحمل أثرَ ضحكة انطفأت، أو صورة علقتها أمّ على الحائط قبل أن يتحول الحائط إلى غبار.
نساء غزة يفتحن عيونهن كل صباح على احتمال أن يفقدن كل شيء، ومع ذلك يطهين الفطور، ويغسلن الثياب، ويقلن لأطفالهن: "ما تخافوا".
يقفن في منتصف النار كأنهن حائط الصبر الأخير، يرمين الحجارة على الخوف ويصنعن من الحزن خبزًا.
هنّ من يرممن البيت حين يتشقق، ومن يرممن الروح حين تنهار.
حتى الغرفة التي لم تقصف بعد، تحفظها أيديهن كطفل مريض يلتف بصوت أمهات رحلن وبقين.
وفي الضفة، لا يسقط السقف، لكنه يقتحم.
جنود الليل يخلطون بين البيوت والأحلام، بين النوم والهلع.
هناك نساء يتعلمن كيف يوقظن أولادهن دون صوت، وكيف يخبئن الخوف خلف الأبواب المغلقة.
تعيش المرأة في الضفة بين مداهمة وأخرى، بين شائعة اعتقالٍ وخبر شهيد، لكنها تواصل يومها تذهب إلى العمل، تطبخ، تدرّس، وتُصلّي أن تعود كل مساء إلى بيتها كما تركته.
هي تعرف أن الاحتلال لا يحتاج صاروخا ليكسر قلبا، يكفيه أن يقتحم بيتها في الفجر ليترك وراءه وجعا لا يرمم.
أما في المخيمات، في الشتات، فالغرفة التي لم تقصف بعد… هي الغرفة التي لم تبن أصلا.
نساء المخيم لا يملكن بيتا يخشين عليه، لأنهن يعشن في بيوت مؤقتة منذ أكثر من سبعين عاما.
بيوتهن تفيض حكايات أكثر من الماء، وجدرانهن أضعف من أحلامهن، لكنهن ما زلن يعلقن ستائر ويزرعن شتلة على الشباك كأنهن يؤكدن للعالم أن الحياة هنا أيضا تستحق أن ترى.
هن اللاجئات اللواتي يحملن المفاتيح في صدورهن، لا في الجدران.
يبتسمن رغم الانتظار، يربين أبناءهن على فكرة العودة، رغم أن الطريق إليها صار أطول من العمر.
لكن خلف كل ابتسامة امرأة فلسطينية، هناك وجع عميق لا يقال.
هناك لحظة صمت حين ينام الجميع، تبكي فيها بصوت لا يسمعه أحد.
هناك خوف من الغد، ومن الفقد القادم، ومن الطرقات التي لم تعد آمنة.
ومع ذلك، في كل صباح جديد، تمسح دموعها وتقول: “ما زال فينا قلب ينبض، وما زال فينا بيت قائم، وسنظل نحمي ما تبقى.”
نساء غزة والضفة والمخيمات هن الوجه الإنساني لوطنٍ يعاد بناؤه كل يوم من تحت الرماد.
هن من يبقين للأرض معناها، وللذاكرة جذورها، وللحياة نبضها.
وحين يسألك أحد عن معنى الصمود، قولي له:
"الصمود هو امرأة تغسل الغبار عن وجه طفلها، وتبتسم، كأن شيئًا لم يكن."
"ربما الغرفة التي لم تقصف بعد… ليست في البيت، بل في قلب المرأة الفلسطينية الذي ما زال يؤمن بالحياة رغم كل هذا الخراب."