عامان على النكبة الجديدة… غزة بين الرماد والرجاء

اعامان مرا على السابع من أكتوبر… عامان من الدم والحصار، من الرماد والوجع، من نكبةٍ جديدة لم يشهد لها التاريخ مثيلًا منذ مأساة العام 1948.
عامان سقطت فيهما غزة من السماء إلى الجحيم، بين قصفٍ لا يتوقف، وجوعٍ لا يُحتمل، وصمتٍ عالميٍّ يقتل أكثر من الصواريخ.

لم تعد النكبة كلمة تُذكر في كتب التاريخ، بل صارت واقعًا حيًّا نعيشه في كل بيتٍ مهدّم، في كل أمٍّ تبحث عن طفلها تحت الركام، في كل عائلة تنام على صدى الطائرات بدلًا من نغمة الأذان.
منذ السابع من أكتوبر 2023، تغيرت ملامح غزة كما لم تتغير يومًا:
كانت مدينةً تصارع الحصار، فأصبحت أرضًا تحاول النجاة من الإبادة.

حرب الإبادة… وولادة الموت من جديد

شنّت إسرائيل حربها على القطاع بوحشية غير مسبوقة، لا لشيء إلا لأنها أرادت أن تطفئ نور الحياة في غزة.
خلال عامين، قُتل عشرات الآلاف من المدنيين، وجُرح مئات الآلاف، ودمّرت أكثر من 80% من البنية التحتية: منازل، مدارس، مستشفيات، مساجد، جامعات، وحتى المقابر لم تسلم.
تحوّلت غزة إلى مدينةٍ من الغبار، تُحصى فيها الجثث بالأرقام، وتُدفن فيها الذكريات قبل أصحابها.

مأساة الإنسان الغزّي

لم يعد الفلسطيني في غزة يسأل عن الكهرباء أو الماء، بل يسأل: “هل ما زال لي بيت؟ هل بقي لي ابن أو أم أو زوجة؟”
المشهد الإنساني يفوق الوصف:
ملايين النازحين في خيامٍ تبتلعها الأمطار، وأطفالٌ بوجوهٍ شاحبة من الجوع، ونساءٌ يقطعن الطرق بحثًا عن حفنة دقيق، وشيوخٌ يموتون بصمت على أعتاب المراكز الصحية المدمرة.
حتى البحر الذي كان ملاذًا للفقراء، صار شاهدًا على مأساة جديدة، حين لفظ جثث الغرقى الذين حاولوا الهرب من جحيم لا ينتهي.

الانقسام والعار السياسي

ومع كل هذا الخراب، بقي الانقسام الفلسطيني عنوان المرحلة.
لم تتوحد الكلمة، ولم تتصافَ القلوب، وكأن الدماء التي سالت لم تكن كافية لتجمعنا على كلمة الوطن.
السلطة هنا مغيّبة، والفصائل هناك تتنازع الوهم، والناس وحدهم يدفعون الثمن مضاعفًا بين الاحتلال والفصائلية.
غزة اليوم لم تعد ضحية القصف فقط، بل ضحية الصمت والانقسام وسوء القيادة، وضحية من باعوا القضية في أسواق السياسة.

العالم الصامت… شريك في الجريمة

عامان من المجازر، والعالم ما زال يتحدث عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”!
أي دفاع هذا الذي يقتل الأطفال في مدارس الأونروا؟
أي عدلٍ في أن يُمنع عن غزة الدواء والغذاء والماء، ويُترك شعبها يواجه الموت في عزّ النهار؟
إن الصمت الدولي على هذه الجريمة هو مشاركة في تنفيذها، وإن كل يدٍ لم تمتد لإنقاذ غزة، هي يدٌ ساهمت في دفنها.

انهيار القيم والأمل

لم تعد غزة تبحث عن النصر، بل عن لقمة نجاة.
القيم تهاوت، الأخلاق انكسرت، والثقة تآكلت.
في ظل الفوضى والفقر والضياع، ظهرت طبقة من السماسرة والمحتكرين، تتاجر بجوع الناس وتبيعهم الوهم باسم “الصمود”.
غزة اليوم لم تعد مجرد جغرافيا محاصرة، بل معركة بين الإنسان والعدم، بين من يحلم بالحياة ومن استسلم للدمار.

ومضة الرجاء… رغم كل شيء

لكن، وبرغم كل شيء، لم تنكسر غزة.
من بين الركام، يولد طفل جديد يحمل اسم وطنه، ومن بين الأنقاض تخرج امرأة ترفع صورة شهيدها وتقول: "ما بنموتش، إحنا بنكمّل."
غزة التي نزفت حتى آخر نقطة دم، ما زالت قادرة على أن تكتب بالدم: “هنا كانت حياة، وهنا ما زال الأمل.”

في ختام سطور مقالي: دروس من الرماد

عامان من النكبة الجديدة تكفي لأن نستيقظ من الوهم.
فلسطين لا تبنى بالشعارات ولا تُحرر بالمزايدات.
ما نحتاجه اليوم هو حساب النفس قبل حساب العدو، ووحدة وطنية صادقة تضع مصلحة الشعب فوق أي راية.
علينا أن نعيد للإنسان الفلسطيني كرامته، قبل أن نحلم برفع رايات النصر فوق الخراب.

إن السابع من أكتوبر لن يُمحى من الذاكرة، لكنه يجب أن يُقرأ بعين الحقيقة لا بعين الشعارات.
فمن دون مراجعة صادقة، ستتكرر المأساة مرة بعد مرة، وسنبقى ندور في حلقة الدم والخذلان.

غزة اليوم بين الرماد والرجاء…
لكنها – كعادتها – ستنهض من بين الركام، لأن في عروقها يسري نبض الحياة الفلسطينية الذي لا يموت.

disqus comments here