رسالة مفتوحة إلى مروان البرغوثي..في زنزانته الإنفرادية..وفي صموده الشامخ..

إذا كانت الحرية شيئا مقدسا ومبدأ لا يمس..فلا يمكن أن يكون هناك ما يبرر التلاعب بها».
ايزيا برلين في كتاب «حدود الحرية»*

القانون والأخلاق..هما ركيزتان للممارسة السلمية للحرية.(الكاتب)

للحرية مهر سخي لا يعرف ثمنه إلا من عانق الموت بروح استشهادية عالية،وارتقى بقراره إلى منصة التضحية،والاستشهاد..
هل صادفتها (الحرية)-يا مروان-إلا في جيوب الشهداء المحشوّة بالرصاص،إلا في حقائب المهاجرين الذين شردتهم أوطانهم وأوهام الشعراء..هل سمعت باسمها إلا في الخطابات الرنانة،روايات المعارك والملاحم والبطولات؟
من عرفها إلا تمثالا وبيارق..شعارا ونشيدا..؟
من دقّ ب"اليد المضرجة" بابها ففتحت له ودخل ملكوتها..؟
من شارك الحشود في أعراسها قبل أن يعود إلى بيته كئيبا ووحيدا؟
الحرية شجرة لا تتغذّى بغير الدّماء..امرأة ميثولوجية تسكن الرّيح،وتعوي مع ذئاب الفيافي.. قمر في بلاد ليست فيها ليال مقمرة ولا أصدقاء..أحلام ثوار سقطت أوهامهم في خريف العمر-سجون مرعبة-تروي في السر ليلا مواجع من سكنوها..!
رجف يستبدّ بالأرض قبيل انبلاج الصباح..
ولكن..
لست أدري لماذا يُنسب للحرية غالبا لون الدّم،مع أنّه أصلا الدليل القاطع على غيابها..! لماذا يقترن اسمها بأحداث ملفقة وأفكار مزوّرة،كأنّ الواقع المترجرج وحده لا يكفي..؟
إننا لا نستحقها،إلا حين ندفع مهرها،وحين ندفع الثمن لا نعود نستحقها،فالحرية رهان خاسر على مستقبل البشرية..الذين يبشرون بها هم الذين اعتادوا على غيابها،فلو تحقّقت بطُل مبرّر وجودهم..
–اسألوا الشهداء-كم كتبوا اسمها سدى في كل مكان..اسألوا الشهيد صدام حسين حين عانقها للمرّة الأخيرة،واسألوا سيزيف هل بوسعه الانعتاق من لعنة الآلهة..اسألوا السجانين ونزلاءهم عنها..
الحرية-يا مروان-خيانة دائمة للذات،فمن يجرؤ على مخاصمة نفسه وزعزعة قناعاته،والتخلّص من عاداته والتنازل عن امتيازاته..؟
أعرف أنّ المقاومين يعيشون من أجلها،ولهذا فمصير معظمهم-الاستشهاد-وأنّ الفدائين يعطونها زهرة أعمارهم،لكنها لا ترتوي-
انظروا كتب التّاريخ،أعرف أنّه لا مفر من مواصلة سعينا،من دحرجة الصخرة نفسها على درب تسوياتنا اليومية وتنازلاتنا.
ولكن..
الحرية أمنية مشتهاة..هكذا قيل،ولكنّها أيضا مكلفة،هكذا أريد أن أقول،لكن يقال إنّ هناك من لمسها بيده في لحظة إشراق،هناك من لمس استحالتها،فقرّر أن يستشهد في سبيلها،عساها تكون..وحتما ستكون..
لست أحلم يا مروان..لكنه الإيمان الأكثر دقة في لحظات التاريخ السوداء..من حسابات بن غفير وأشباهه الآفاقين..وحفاة الضمير..

* ايزيا برلين ( 1907 -1998 ) مفكر بريطاني من أصول روسية.أستاذ النظرية الاجتماعية والسياسية في جامعة أكسفورد،عرف كمنظِّر سياسي، ومؤرخ أفكار بالدرجة الاولى. واشتهر بدفاعه عن الليبرالية والتعددية وهجومه على الأنظمة الشمولية والتعصب الفكري. وتُعد نظرياته حول الحرية نقطة انطلاق أساسية للكثير من المناقشات السياسية الحديثة والمعاصرة.

disqus comments here