رجل غريب في غرفتي
Sun 03 August 2025

نشأت في بيتٍ متواضع، أمّي لم تُكمل تعليمها وتزوجت بعمر الثلاثة عشر عاماً، وفي العشرين كانت مُحاطة بخمسة أطفال.
قضت أمي عمرها تخبز، تغسل، تطبخ وتهتم بنا، كُنّا ثمانية أطفال في البيت. ومفهوم البيت لم يكُن بيتاً كوننا ثمانية وكوننا لاجئين. لم نعرف معنى السقف في عدد من البيوت، بل وأذكر يوم كُنّا في الزهراني وقت الاجتياح الاسرائيلي للبنان، نمنا في منزل بلا سقف، كُنّا أطفالاً وغفونا ونحن ننظر إلى النجوم في السماء.
لا أذكر بالتحديد عدد البيوت التي تنقّلنا بينها، ولا أذكر أن كان لي غرفة خاصة، بل كنُا نتشارك كل شيء، من الثياب إلى الحقائب المدرسية.
في أيلول ١٩٩١ انتقلنا إلى جدرا، وهناك بدأ يتشكّل مفهوم الغرفة للبنات، وكانت مرحلة دراسية صعبة، حيث نحتاج إلى مواصلات للوصول إلى مدرسة الأنروا في سبلين، وكم من أشهر لا يجد أبي في جيبه إلا أجرة الباص الشهرية.
في عامي الجامعي الأخير باعت أمّي ليرة الذهب التي تملكها لتدفعها قسط الجامعة السنوي في الجامعة اللبنانية، ووعدتها أن أعيدها بعد التخرّج. كنتُ أمشي من الجامعة حتى ساحة النجمة لتوفير أجرة التاكسي، وينتظرني والدي عند مفرق جدرا كل يوم في التوقيت الذي أخبره إياه.
تزوجت إختاي وأصبحت الغرفة لي أخيراً، وبتُُ أضع ما يروق لي بها من أشياء بسيطة، إلى أن وضعت بعض الصور لشاعر فلسطيني وكاتب فلسطيني ولفيروز سيدة الشرق.
في يومٍ دخلت أمّي غرفتي ورأت صورة على الطاولة، فنهرتني كيف أضع صورة لرجلٍ غريب في غرفتي!
ضحكتُ يومها وأخبرتها بأنّ الصورة لمحمود درويش، فقالت لي:" واذا يعني محمود درويش!"
كيف أشرح لأمّي مَاذا يعني محمود درويش وماذا يمثّل لنا كشعب فلسطيني.
اعذروا أمّي فهي ربّة منزل، لم تعرف معنى الراحة يوماً، لم تتوقّف يوماً عن الاهتمام بنا، هي مَن حافظت علينا في ظلّ كل الظروف السيئة التي مررنا بها، دائماً كانت إلى جانبي وقت المرض، وقت الفرح، وقت الحزن، هي مَن احتضنني عندما عدتُ مكسورة القلب، وهي مَن رأيت في عينيها كل الحبّ حين نجحت وحين توظّفت. لم تقرأ شعر محمود درويش ولا تعرف صورته، لم تقرأ لغسان كنفاني وأيضاً لا تعرف صورته.
جلستُ أشرحُ لها عن شعر محمود درويش وتلوتُ لها قصيدته الزنبقات السّود.
الزنبقاتُ السودُ في قلبي
وفي شَفَتي... اللهبْ
من أي غابٍ جئتني
يا كلَّ صلبانِ الغضبْ؟
بايعتُ أحزاني
وصافحتُ التشردَ والسِّغَبْ
غضبٌ يدي
غضبُ فمي
ودماءُ أوردتي عصيرٌ من غضبْ!
يا قارئي
لا ترجُ مني الهمسَ
لا ترجُّ الطربْ
هذا عذابي
ضربةُ في الرمل طائشةٌ
وأُخرى في السُّحُبْ
حسبي بأني غاضبٌ
!والناُر أولّها غَضَب
كنتُ أقرأها لها بما تعنيه وبقوّة الألفاظ التي بها، كانت أمّي تبتسم وأنا أقرأ، وتعرّفت على محمود درويش. اختياري للقصيدة كونها غير مشهورة، فقد حفظتها عن ظهر قلب حينما اشتريت معظم دواوين محمود درويش، وعشقتها بمفرداتها وبمعانيها.
تركت الصورة على الطاولة، وخرجت من غرفتي لتطبخ لي أحد الأكلات التي أحبّها.
لم تشفع لي القصيدة، ورغم مكانة محمود درويش إلا أنّ هذا لم يجعل أمّي توافق على أن أذهب لمعرض الكتاب لألتقي بمحمود درويش، وبقيتُ حبيسة كتبه وأشعاره حتى اليوم.
عناد أمّي الذي بدوري ورثته عنها جعلني أدرك بأنّ الإنسان لا يحصل على كلّ ما يتمناه، وعليه أن يصبر كثيراً، وتصبح روحه مرهقة حتى يبلغ أمنياته. أنا متمردة ولكن عند أمّي أصبح متمردة مُروّضة وتختفي لاءاتي أمام هيام خليل شاهين. الانكسار الذي شعرته لم أشعره يوماً، وبقيت الأمنيّة بلقاء محمود درويش غصة في صدري حتى اليوم.