معيلون صغار… أطفال مسؤولون عن قوت عائلاتهم في غزة

دفعت المأساة التي خلّفها العدوان الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من 20 شهراً على قطاع غزة، الأطفال إلى العمل من أجل كسب القليل من الأموال لإعالة أسرهم، خصوصاً عند غياب معيل الأسرة.

يضطر آلاف الأطفال الفلسطينيين في قطاع غزة إلى التجول في الحارات والشوارع، أو الجلوس خلف “بسطات صغيرة” في الأسواق الشعبية لكسب بعض المال، بعد أن قست عليهم الظروف المعيشية والاجتماعية، سواء لاستشهاد آبائهم أو اعتقالهم، أو حدوث طارئ يجبرهم على المكوث في الفراش أو يمنعهم من العمل، وبالتزامن مع انعدام فرص الحصول على العمل، ليخسر هؤلاء الأطفال حقوقهم التي تنص عليها كل القوانين والأعراف الدولية من أجل توفير لقمة عيش كريمة تقي أسرهم سؤال الناس.

ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تفرض إسرائيل حصاراً مطبقاً على أهالي قطاع غزة، من خلال إغلاق المعابر الحدودية، وتُشهر سلاح التجويع في وجههم، والذي ضاعفته منذ استئناف العدوان في 18 مارس/آذار الماضي، في أعقاب خرقها اتفاق التهدئة الذي جرى توقيعه في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، بوساطة قطرية ومصرية وأميركية، ما سبَّب خلق ظروف معيشية واجتماعية قاسية.

عند الساعة التاسعة صباحاً، يخرج الطفل رفيق المدهون (10 سنوات) وشقيقه أحمد (9 سنوات) للعمل على بسطة صغيرة لبيع الفلافل، في سبيل الحصول على القليل من المال لإعالة عائلتهم المكونة من خمسة أفراد، بعد استشهاد والدهم في 30 ديسمبر/كانون الأول 2023.

يقول رفيق : “بعد استشهاد والدي لم يبقَ لنا مُعيل، لذا بحثت عن عمل لأعيل والدتي وإخوتي الأطفال، خاصة أن الوضع صعب، ولا يوجد بديل لتوفير المصروفات والاحتياجات. أشتغل أنا وشقيقي مقابل 20 شيكلاً في اليوم، ومنها أشتري بعض متطلبات الأسرة”.

بدوره، يقف الطفل عوني أبو العطا (12 سنة) خلف بسطة صغيرة في سوق الشيخ رضوان بمدينة غزة، وضع عليها القليل من أكياس رقائق البطاطس، ينادي بصوت عالٍ “الشيبسي الجديد”، علّ مرتادي السوق يشترون منه، بعدما فرضت عليه الظروف واقعاً صعباً لم يعتد عليه سابقاً.

يروي أبو العطا لـ “العربي الجديد”: “أتوجه في الصباح الباكر إلى أحد الباعة لشراء أكياس الشيبسي، ثم أتوجه بها إلى سوق الشيخ رضوان، لبيعها والحصول على مكسب بسيط أصرفه على عائلتي. استشهد والدي في مايو/أيار 2024، وأنا ووالدتي وإخوتي الثلاثة نازحون من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة إلى مدرسة لإيواء النازحين في حي الشيخ رضوان، ولا يوجد مُعيل لنا، لذا اضطررت إلى الشغل، وأحصل على نحو 30 شيكلاً أو أكثر يومياً بحسب البيع. وضعنا صعب، ونحتاج إلى أموال بشكل يومي، خصوصاً في ظل أسعار السلع الغالية في السوق”.

في حكاية أخرى، يجلس الفتى أسامة أبو جلالة (15 سنة) خلف بسطة صغيرة وضع عليها بعض مُستلزمات الهواتف المحمولة، ومواد أخرى للإنارة. لم يكن هذا المستقبل الذي حلم به، لكنه بات واقعاً مفروضاً عليه قسراً. يقول لـ “العربي الجديد”: “أبي مُعتقل منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ونحن نازحون من شمالي غزة إلى منطقة مواصي خانيونس، ولا بد أن أعمل كي أساعد أمي وإخوتي”.

يضيف أبو جلالة: “عائلتي مكونة من خمسة أفراد، وليس لنا مُعيل، لذا أعمل لتوفير المال لشراء المواد الغذائية، خصوصاً مع ارتفاع الأسعار بشكل جنوني لعدم توفر السلع بكثرة في الأسواق. في بعض الأحيان أستطيع توفير 50 شيكلاً، وأشتري بها القليل من مستلزمات البيت”.

يدور الطفل أيهم عياش (12 سنة) في سوق الشيخ رضوان والأحياء المجاورة له حاملاً صندوقاً بلاستيكياً على شكل دائرة يضع بداخله أكياساً من المياه الباردة أملاً ببيعها كي يعود إلى عائلته بمبلغ قليل من المال يقضي به حاجياتها الدنيا. ينادي: “المياه الساقعة. برّد على حالك”. يقول عياش لـ “العربي الجديد”، وهو الابن الأكبر لعائلته: “والدي مريض ولا يستطيع العمل، لذلك أُضطر إلى الخروج يومياً لبيع المياه الباردة مقابل شيكل واحد للكيس. في نهاية اليوم أكسب نحو 20 شيكلاً، وأتوجه بها إلى عائلتي. الأسعار مرتفعة في السوق، وبصعوبة أستطيع توفير بعضها”.

لم يتجاوز عمر الطفل نزار ناجي (12 سنة)، وقد تخلى عن مقاعد الدراسة قسراً، وتوجه لبيع “البرابيش”، وهي خراطيم المياه البلاستيكية في أحد شوارع مدينة غزة، والتي يستخدمها الناس لإشعال النار بغرض الطهي، ويبيعها بمبلغ زهيد لا يتجاوز 12 شيكلاً للكيلو، من أجل أن يتمكن من إعالة نفسه وأسرته.

يقول ناجي لـ “العربي الجديد”: “وضع أبي صعب، وأعمل كي أساعد أهلي، وأحصل من هذا العمل على 10 إلى 15 شيكلاً فقط. هذا مبلغ قليل مقارنة بارتفاع أسعار السلع في السوق، لكني أقبل به لأنه ليس لدي أي خيارات أخرى، حتى لا نسأل الناس عن حاجاتنا ونوفرها بأنفسنا”.

يقف الطفل أحمد عبيد، ابن الثلاث عشرة سنة، حاملاً صينية من حلوى “الغريّبة” يطوف بها بين الأزقة والأسواق، بحثاً عمن يشتري، لا ليسعد نفسه، بل ليُطعم أسرته المكونة من خمسة أفراد، في ظل غياب والده الذي سافر خارج قطاع غزة قبل اندلاع العدوان الإسرائيلي، تاركاً خلفه مسؤولية ثقيلة على كاهل صغير.

يقول عبيد لـ “العربي الجديد”: “أبيع الغريّبة، وفي آخر النهار أجني 30 شيكلاً، بهذا المبلغ أشتري من السوق عدساً لعائلتي أو معكرونة إذا توفرت، حتى لا أُضطر إلى سؤال الناس والاستدانة منهم، خصوصاً أن أوضاع غالبية سكان القطاع سيئة جداً لأن الحرب حرمت الكثير من أرباب الأسر من العمل”.

هذه المهنة ليست الأولى التي مارسها عبيد، فقد عمل في وقت سابق، قبل إغلاق المعابر، في مساعدة المواطنين الذين يتلقون المساعدات الإنسانية عند مراكز التوزيع في مدينة غزة، مقابل الحصول على اثنين من الشواكل، لتأمين شيء من الطعام لأمه وإخوته.

على أحد مفترقات الطرق في حي الشاطئ غربي مدينة غزة، يقف الطفل قصي صالح، ابن الثانية عشرة من عمره، غير آبه بأشعة الشمس الحارقة، ممسكاً بصندوق بلاستيكي يمتلئ بأكياس من العصير الذي يحمل ألواناً مختلفة، وهو ينادي بصوت خافت على المارة “عصير ثلج. بشيكل الباكيت”.

يقول صالح لـ “العربي الجديد”: “أمشي مسافات طويلة كل يوم تحت أشعة الشمس من أجل بيع العصير مقابل ما لا يتجاوز 20 شيكلاً أتوجه بها إلى والدتي من أجل شراء ما يلزم لإخواني، خصوصاً أن والدي لا يستطيع العمل بفعل إصابة تعرض لها خلال الحرب، ونزوحنا إلى خيمة داخل أحد مراكز الإيواء”.

من جهتها، تحذّر استشارية الصحة النفسية والاجتماعية، غادة أبو القمبز، من تفاقم ظاهرة عمالة الأطفال في قطاع غزة، معتبرةً أنها أزمة قديمة زادت حدّتها بعد الحرب، وباتت تهدد حاضر الأطفال ومستقبلهم على المستويات النفسية والاجتماعية والصحية. وتؤكد لـ “العربي الجديد”، أن “عمالة الأطفال ليست وليدة الحرب، لكنها تفاقمت بفعل الفقر والبطالة وغياب رب الأسرة، إما بسبب الاستشهاد أو المرض، ما دفع آلاف الأطفال إلى سوق العمل قسراً، ليكونوا المعيل الأساسي لأسرهم في سن مبكرة”.

وتضيف أبو القمبز: “لا يحق لأي أسرة استغلال أطفالها بالعمل أو التسوّل أو إجبارهم على أعمال شاقة لا تتناسب مع أعمارهم. هؤلاء الأطفال من حقهم أن يعيشوا طفولتهم كما يجب، ويتعلموا ويلعبوا ويُحمَوا من كل أشكال الانتهاك، سواء قبل الحرب أو بعدها. هناك أضرار نفسية عميقة تلحق بهؤلاء الأطفال، فالعمل المبكر يحرمهم من التعليم، ويُشعرهم بالدونية مقارنةً بأقرانهم، ما قد يؤدي إلى أمراض نفسية كالاكتئاب، والانتكاسات، وربما التخلف العقلي، فضلاً عن الانحراف السلوكي”.

وتبين: “من الجانب الاجتماعي، الأطفال العاملون قد يُحرمون من التواصل الأسري السليم، ويُعرضون للعنف الأسري، وقد ينجرفون نحو مجموعات سيئة تؤدي بهم إلى التدخين أو الإدمان أو ارتكاب المخالفات، فضلاً عن الأخطار الصحية، ومنها التعرض للتلوث، والأوبئة، والحوادث، وحتى الهجمات الحيوانية، إلى جانب مخاطر اقتصادية كالتعرض للنهب أو الاستغلال أو حتى الانخراط في أعمال غير قانونية نتيجة الحاجة الشديدة”.

وحول الحلول، تشدد أبو القمبز على ضرورة وجود خطة علاجية شاملة عند توقف الحرب، تبدأ بالدعم النفسي، وتمر عبر إعادة دمج الأطفال في بيئة سليمة، سواء في المدارس أو المهن المحمية المناسبة لأعمارهم، مؤكدة أن دور المؤسسات الداعمة هو أن تُعيد للطفل حقه في الحياة

disqus comments here