حين يصبح التفكير مقاومة.. “في معنى التفكير سياسيًا في فلسطين اليوم”

الباحث في العلوم الاجتماعية خالد عودة الله يُحرّض على التفكير من نقطة الصفر
نحن منهمكون في الحياة وتدوير الأحداث وتسارع إيقاعها قد حرم الناس من فرصة التفكير
ما جرى في 7 أكتوبر وما تلاه قطيعة زمنية في التاريخ الفلسطيني ومفصل لا ينبغي تجاوزه بسهولة
“الواقعية السياسية” مفهوم استُخدم لقمع البدائل الجذرية وكل من يمتلك قوة يحاول أن يُعرّف ما هو واقعي وفق مقاييسه
أزمتنا في انقطاع العلاقة بين السياسة والمجتمع فالسياسة لا تبدأ من الشعارات بل من الناس
التفكير في زمن الخذلان
في زمن يضج بالأحداث، حيث العالم يضغط على أعصابك كأنفاس متلاحقة، تبدو دعوة واحدة عصيّة، ثقيلة، ولكنها ضرورية، أن تفكّر. أن تفكر فعلًا. لا أن ترد، ولا أن تُعلّق، ولا أن تشتم أو تهتف، بل أن تفكّر بما يجري، وبما لا يجري. هنا، في هذا الركن الضيق من العالم، حيث الموت جماعي والخذلان جماعي أيضًا، يصبح التفكير مقاومة.
هذا ما حاول خالد عودة الله، الباحث في العلوم الاجتماعية وفلسفتها، أن يلتقطه في ندوة حملت عنوان “في معنى التفكير سياسيًا في فلسطين اليوم”، نظّمتها دائرة سليمان الحلبي للدراسات الاستعمارية بالتعاون مع مركز خليل السكاكيني الثقافي، وأُقيمت مساء أول من أمس في مقر المركز بمدينة رام الله.
لكن لا تتوقع أن تجد لدى عودة الله خارطة طريق مزخرفة أو وصفة جاهزة. بل ما ستجده هو “جرعة وعي مرتبة على مهل، ومشحونة بألم التاريخ وأسئلته الثقيلة”، كما وصفها هو نفسه. حديث لا يُطمئن، بل يُقلق، لا يُسلّي، بل يُحرّض على التفكير من نقطة الصفر.
الندرة المؤلمة للتفكير
ينطلق عودة الله من حقيقة صادمة: أن التفكير، وخاصة التفكير السياسي، فعل نادر وصعب، ولا يتأتى لنا دائمًا، ويقول: “التفكير مهمة صعبة جدًا، وإذا تأمل الإنسان نفسه على مدى زمني طويل سيكتشف أنه لا يفكر طوال الوقت. بل إن التفكير، بمعناه العميق، أي أن يمحّص الإنسان مقدماته ويقيس مدى منطقيتها، ليس أمرًا يوميًّا، بل نادر الحدوث”.
نحن نعيش زمنًا استهلاكيًا، لا فقط في المأكل والملبس، بل في المواقف والانفعالات. ويصف عودة الله هذا الواقع قائلًا “نحن منهمكون في الحياة، وفي الزمن السريع لهذا العصر. هناك حدث طوال الوقت، لكن ليس كل حدث مهم. بل إن إعادة تدوير الأحداث وتسارع إيقاعها قد حرم الناس من فرصة التفكير”.
الإبادة كملف بحثي
لكن لحظة 7 أكتوبر كسرت هذا الإيقاع. لم تكن حدثًا عابرًا، بل لحظة قطيعة. وقال “ما جرى في السابع من أكتوبر وما تلاه هو قطيعة زمنية في التاريخ الفلسطيني، ومفصل لا ينبغي تجاوزه بسهولة”. لحظة فجّرت كل ما اعتبرناه ثابتًا، ووضعتنا وجهًا لوجه مع ضعف أدواتنا ومحدودية فهمنا لعدونا ولنفسنا.
الأصعب، وفق عودة الله، أن الإبادة الجماعية في غزة، وعلى الرغم من فظاعتها، لم تُستثمر بما يكفي في إعادة بناء فعل سياسي حقيقي. بل على العكس، “تحولت الإبادة إلى موضوع بحثي، نُفرّغه من أبعاده الأخلاقية والوجودية، ونتعامل معه كحقل أكاديمي، بدلًا من كونه جريمة تتطلب مساءلة وفعلًا سياسيًا جذريًا”.
الواقعية كأداة قمع
ويُحذر عودة الله من تحول الحديث المتكرر عن المجازر إلى وسيلة لإدامة العجز: “التركيز المستمر على الإبادة قد يُستخدم لتثبيت شعور جماعي بالعجز، كأنها جريمة كبرى لا يمكن لأي جهد بشري أن يقابلها، فيُبرَّر القعود وغياب الفعل”.
ولم يغفل عودة الله عن مساءلة مفهوم “الواقعية السياسية” الذي طالما استُخدم لقمع البدائل الجذرية، ويقول: “لا يوجد شيء اسمه الواقعية بمعناها المطلق. الواقعية ليست ما هو قائم، بل ما يتم تثبيته عبر الصراع. كل من يمتلك قوة يحاول أن يُعرّف ما هو واقعي وفق مقاييسه”.
ثم ينتقل إلى سؤال الإرادة، قائلًا: “من أكبر الأسئلة التي ينبغي أن نواجهها: لماذا فشلنا؟ لماذا لم نستطع وقف المجزرة؟ هذا سؤال لا يخص النخب وحدها، بل المجتمع كله”. وأضاف: “الفشل السياسي في لحظة مؤسسة مثل هذه يجب أن يُفكَّك لا أن يُغلّف، ويجب أن يُواجَه لا أن يُؤجَّل”.
السياسة تبدأ من الناس
السياسة، في نظره، ليست مشروعًا مؤسساتيًا أو تنظيميًا فقط، بل “ممارسة جماعية مرتبطة بالمجتمع، تبدأ من قواعده، ومن علاقاته اليومية، ومن إعادة بناء الروابط التي تفكّكت”. ومن هنا يأتي نقده الحاد لفكرة اختزال أزمة المشروع الوطني الفلسطيني في أزمة تمثيل سياسي، ويقول “أزمتنا ليست فقط في من يمثل من، بل في انقطاع العلاقة بين السياسة والمجتمع، وفي اختلال القاعدة التي تقوم عليها النخب”.
لهذا، يدعو إلى العودة إلى “السياسة كممارسة حياتية، تبدأ من الجامعة، ومن الحيّ، ومن الجلسة الصغيرة، ومن اللقاء الثقافي، ومن بناء علاقات تضامن جديدة”. فالسياسة، كما يؤكد، “لا تبدأ من الشعارات، بل من الناس”.
ثم يصل إلى مسألة بالغة الأهمية حين يقول: “إذا لم يُترجم الوعي إلى تغيّر في الوجود الإنساني، فإن الوعي يتحول إلى انفصام”. ويعني بذلك أن الإنسان قد يمتلك وعيًا ثوريًا، لكنه يعيش حياة لا صلة لها به، فتكون النتيجة تشوّهًا ذاتيًا وشكليًا في الانتماء.
تفكير على حافة الانطفاء
وختم عودة الله بإشارة دقيقة إلى موقعنا اليوم: “لقد وصلنا إلى لحظة بات الحفاظ فيها على ما تبقّى من المجتم الفلسطيني نفسه، لا على مشروع الدولة، هو جوهر الفعل السياسي”، مؤكداً أن “إعادة بناء السياسة لا تبدأ من الحلول الكبرى، بل من التأسيس من جديد، من اللقاء، ومن الاعتراف بواقع مهدد، ومن التزام طويل النفس لا يطلب نتيجة فورية، بل يطلب جدية وصدقًا ووضوحًا”.
إذًا، ما معنى أن نفكّر سياسيًا في فلسطين اليوم؟
ربما، كما قال عودة الله، هو أن “نعود للتفكير من نقطة الصفر”. أن نعيد تفكيك ما نظنه بديهيًا، ونرفض التسليم بما يُقال لنا إنه “واقعي”. أن نُمارس السياسة لا بوصفها مهنة، بل مسؤولية أخلاقية أمام الموت، وأمام التاريخ، وأمام من تبقّى.
أن نفكر، لا لأن التفكير ترف، بل لأنه آخر ما تبقّى قبل الانطفاء.