غزة تحت النار.. كيف حرّٰكت لجنة مقاطعة إسرائيل (BDS) الضمير العالمي؟!

يشهد قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 وحتى الآن حربًا شعواء، تتجاوز في وحشيتها كلَّ أشكال العدوان المعروفة، حيث تُمارس إسرائيل بصهيونتها اليمينية المتطرفة سياسة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد أكثر من مليوني فلسطيني، يعيشون في ظروف حصار خانق؛ آلاف الشهداء، وأحياءٌ كاملة سُويت بالأرض، ومؤسسات إنسانية وإغاثية وطبية لم تسلم من القصف، في مشهد لم يعد خافيًا على أحد، بل صار موثقًا بالصوت والصورة على مدار الساعة.
وسط هذا المشهد الدموي، الذي انتهك كلَّ حدود الإنسانية، تتصاعد أصوات عالمية غاضبة، تتجلى في مظاهرات حاشدة في العواصم الغربية، تطالب بوقف العدوان وإنهاء الاحتلال.
وبناءً على هذه المشهدية للفظائع التي ترتكبها حكومة نتنياهو ودولة إسرائيل المارقة Rouge) State) بحق المدنيين الفلسطينين، تلعب اللجنة العالمية لمقاطعة إسرائيل (BDS) دورًا محوريًا في هذا الحراك الشعبي، عبر تعزيز الوعي العالمي بطبيعة الجرائم الإسرائيلية، ودفع المؤسسات والأفراد لمقاطعة إسرائيل اقتصاديًا وأكاديميًا وثقافيًا.
حركة المقاطعة العالمية لم تعد تجمعاً فلسطينياً فقط، فهي ترتكز في حراكها اليوم على ثقل الكثير من المفكرين والشخصيات الاعتبارية اليهودية، أمثال: المفكر د. نعوم تشومسكي،والمحامي ريتشارد فولك، والناشطة
ماديا بنجامين، والكاتب ميكو بليد، والحاخام إسرائيل ديفيد وايس، والمحامي ستالني كوهين، والأكاديمي د. نورمان فنكلشتين، وغيرهم كثير في الدول الغربية من
أصحاب الضمائر الحيّة حول العالم.
ومن الجدير ذكره، أنَّ حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) جرى تأسيسها عام 2005، وقد تبنّت الحركة استراتيجية نضال مدني، مستندة إلى المبادئ الأخلاقية والقانون الدولي، ساعيةً إلى الضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، وإنهاء نظام التمييز العنصري، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. إلا أنَّ الدور الذي تلعبه الحركة اليوم عالميًا، في ظلِّ حرب الإبادة على غزة، يكتسب طابعًا أكثر حيوية وتأثيرًا،
بفضل جهود حركة المقاطعة (BDS) وتحالفاتها مع حركات العدالة الاجتماعية حول العالم، حيث تشهد العواصم الأوروبية والأمريكية -اليوم- موجة من الصحوة الجماهيرية غير المسبوقة، إذ خرجت الملايين في تظاهرات حاشدة، منددةً بالعدوان، ومطالِبة بوقف إطلاق النار الفوري، ورفع الحصار عن قطاع غزة، ومحاسبة إسرائيل على جرائمها.
لقد ساهمت الحركة في نقل الرواية الفلسطينية إلى قلب المجتمعات الغربية، وتفكيك الخطاب الصهيوني اليميني المهيمن، كما دفعت عشرات الجامعات والنقابات والهيئات الثقافية في الغرب إلى تبنّي مواقف صريحة ضد إسرائيل وسياسات مجرم الحرب نتنياهو، بل وطالبتها بقطع علاقاتها مع مؤسسات إسرائيلية صهيونية متورطة في مشاريع الاحتلال.
ومع اتساع تأثير الحركة، برزت تحركات مضادة، تقودها حكومات الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، تستهدف تجريم أنشطة المقاطعة، وتشويه صورة الحركة وربطها بـ"معاداة السامية"، في محاولة لتقييدها قانونيًا وأخلاقيًا.
وفي سياق التساوق مع أجندة نتنياهو وحكومته اليمينية العنصرية المتطرفة، قامت العديد من الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة بسنِّ قوانين تمنع التعاقد مع الأفراد أو الشركات التي تدعو إلى مقاطعة إسرائيل، كما أقرَّت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا أيضاً خطوات مشابهة، تهدف إلى خنق الحركة وإسكاتها. لكنَّ المفارقة، أنَّ سياسة الكيد والمكر إرتدت إلى نحورهم، حيث إنَّ هذه القوانين بدلًا من أن تًخمد نيران المقاطعة، أدت إلى تعاطف أكبر معها، وفضح ازدواجية المعايير في الدفاع عن حقوق الإنسان.
اليوم، تبدو حركة المقاطعة العالمية (BDS) في موقع متقدم، إذ تتصدر فيه معركة بعث واستنهاض الرأي العام، خاصة في ظل تصاعد الوعي الشعبي العالمي، والتحولات الملحوظة في مواقف قطاعات من المجتمعات الغربية، بما في ذلك الشباب، والطلبة، ونشطاء حقوق الإنسان.
وفي الوقت ذاته، يواجه نشطاء المقاطعة
تحديات قانونية وأمنيّة حقيقية، تتطلب بناءَ شبكاتِ دعم قانوني وإعلامي عابر للحدود، والعمل على توسيع رقعة التضامن، من خلال التحالف مع قوى العدالة الاجتماعية والبيئية وحقوق الأقليات حول العالم.
وبناءً على كلِّ ما تقدم، فإنَّ حرب الإبادة في قطاع غزة، قد شكّلت لحظةً كاشفة لانحياز القوى الكبرى، لكنها أيضًا لحظة مفصلية في انبعاث الضمير الإنساني العالمي. وها هي حركة المقاطعة
،(BDS) رغم التضييق والملاحقة، تواصل دورها في تحويل الغضب الأخلاقي إلى فعل مقاوم، وفي تعبئة الرأي العام الدولي نصرةً لحقوق الفلسطينيين، ورفضًا لمنطق القوة والهيمنة. إنها معركة طويلة النفس، ولكنها -كما يبدو- بدأت تميل لصالح الحق وأصحاب المظلوميَّة الأطول عبر التاريخ.