غزة بين نيران التفاوض ونزيف الوقت: كفى عبثًا!

في زحمة التفاصيل المتراكمة، وانهيار الثقة بين التصريحات والمواقف، تبدو غزة وكأنها أسيرة مفاوضات عبثية لا تعرف نهاية. مفاتيح التبادل وخرائط الانسحاب ونقاط الخلاف — المعلنة منها والخفية — تتقاذفها الأطراف كأوراق تفاوض، بينما الواقع ينهار تحت ركام الموت والجوع والدمار.

ثلاثة أسابيع شاقة من المفاوضات كانت كفيلة بأن تبلور صيغة هي الأقرب – وفق تأكيدات الوسطاء – إلى اتفاق واقعي لوقف إطلاق نار دائم. صيغٌ حملت في طيّاتها تقدماً ملموساً، لا سيما في خرائط الانسحاب وآليات تنفيذها. ومع ذلك، بدلاً من تثبيت ما تم إنجازه، عادت بعض الأطراف لتضيف شروطًا جديدة، وتعيد فتح ملفات أُغلقت مسبقًا.

هنا يُطرح السؤال بوضوح: هل نحن فعلًا في موقع يسمح بالمزيد من المناورة؟ هل يمكننا التلويح بالملاحظات والاعتراضات، بينما شعبنا يُقصف ويُجَوَّع؟ من يملك رفاهية الوقت، ونحن نلهث خلف أي صيغة توقف النزيف ولو جزئيًا؟

مبعث الحيرة، بل الصدمة، جاء من تصريحات المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف التي نعى فيها العملية التفاوضية فجأة، ما أثار ارتباك الوسطاء في الدوحة. فقد وصف هؤلاء – من الجانب المصري والقطري – رد حماس على المقترح الأخير بأنه مرن ومنسجم إلى حد كبير مع خطوطهم، بل إنه تضمن خلاصات من الجولات التفاوضية الأخيرة، التي شهدت تقدماً حقيقياً في عدد من الملفات.

قبيل تصريحات ويتكوف، كان الوسطاء في حالة تفاؤل غير مسبوقة، وكان المزاج العام يشير إلى أننا أمام لحظة مفصلية يمكن أن تفتح الباب نحو وقف دائم لإطلاق النار. فما الذي جرى؟ وهل كانت تصريحات ويتكوف مجرد "تكتيك تفاوضي" هدفه الضغط لانتزاع تنازلات إضافية في الدقيقة الأخيرة؟ أم أنها تعكس انهياراً أعمق في بنية المفاوضات تحت ضغط الحسابات الإقليمية والدولية؟

مهما تكن الإجابة، المؤكد أن الوقت لم يعد لصالحنا. فالتجربة تُظهر أننا رفضنا في مارس الماضي مقترح "ويتكوف" بحجة أن الأفضل قادم، فإذا بنا اليوم نلهث خلف نسخة مشوهة منه بعد أربعة أشهر من المجازر، بثمن باهظ: آلاف الشهداء، آلاف الجرحى، ومساحات واسعة من غزة صارت رمادًا.

صحيح أن المقترحات الأخيرة حملت بعض التحسينات، لكن هل تُقاس هذه التحسينات بحجم الكارثة؟ هل تُبرر هذه المناورات المزيد من التأخير، في وقت لم يبقَ فيه حجر على حجر؟ وهل باتت أوراق التفاوض أهم من أرواح الناس؟

الحقيقة المؤلمة أننا لم نعد نملك ترف التأجيل، ولا الطاقة على الاستنزاف. ما كان يمكن التفاوض عليه خلال الستين يومًا القادمة – وهي الفترة التي يفترض أن تعقب تثبيت وقف النار – لا يجب أن يُستخدم اليوم لتعطيله. ما نحتاجه الآن هو التهدئة، الحد الأدنى من الأمان، مساحة للناس لالتقاط أنفاسهم، لا استمرارًا في لعبة النار.

كل لحظة تأخير لم تعد تكلّفنا مواقف سياسية، بل دماء حقيقية، وآلامًا مضاعفة، ومستقبلًا يُقضم أمام أعيننا.

يجب أن نتوقف. أن نقبل بالصيغة المطروحة كما هي، وننقذ ما يمكن إنقاذه. وفي الستين يومًا القادمة يمكن للطرفين العودة إلى الطاولة، لكن من موقع مختلف: من موقع الهدوء لا وسط الزلزال.

هذه الكلمات ليست سوى صرخة في العتمة، لكنها تعبّر عن شعب يُقايَض دمه على طاولات باردة، بينما يتلوى على أنقاض حياة لم يبقَ منها سوى الرماد.

 

كفى عبثًا.

كفى مناورات.

كفى لعبًا بالنار على حافة الانهيار.

disqus comments here