غزة أولاً : الضم كمرحلة متقدمة من الإبادة

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر 2023، طغى الخطاب الإنساني على المشهد الدولي، متجاهلاً عن عمد أن ما يجري لا يمكن اختزاله في معاناة أو أزمة إغاثة، بل هو جزء من مشروع سياسي وأمني واستيطاني طويل الأمد. اليوم، يتضح أن ما يُنفذ في غزة هو أكثر من حرب، إنه مرحلة متقدمة من مشروع الضم والاقتلاع، تمهيداً لما يصفه قادة الاحتلال بعام الحسم، 2025.
ما كان يُطرح في السابق على أنه “تهديد” بات يُناقش رسميًا داخل أروقة حكومة الاحتلال. فليلة الأحد الماضي، تم تداول ملف ضم أجزاء من شمال قطاع غزة لإسرائيل، في خطوة تزامنت مع إعلان الكنيست دعمه الصريح لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية. هذه المؤشرات ليست تفصيلًا عابرًا، بل تعكس خطة متكاملة يتقدّم تنفيذها بهدوء، وتحت غطاء كثيف من الحرب والدعاية والمساعدات “الإنسانية”.
بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي، لم يُخف نواياه منذ البداية. بل صرّح بوضوح أن عام 2025 سيكون “عام الحسم”. لم تكن تلك عبارة دعائية أو وعدًا انتخابيًا، بل تصريح صادر عن وزير نافذ، يملك تأثيرًا حقيقيًا في القرارات السيادية والمالية، ويعمل على تنفيذ خطته عبر أدوات الحكم، لا عبر بيانات سياسية فقط. الخطوة الأولى للحسم بدأت في الضفة، بالضم القانوني لما هو قائم ميدانيًا منذ سنوات، والخطوة التالية – كما يبدو – تنطلق من غزة.
اختيار غزة كبوابة أولى لهذا المشروع ليس عشوائيًا. فشمال القطاع تحديدًا، حيث الدمار الأكبر والتهجير الأوسع، أصبح عملياً خارج القدرة الفلسطينية على العودة أو الإعمار في المدى القريب. استخدام الحرب كوسيلة “تهيئة ميدانية” للضم هو سلوك معروف في العقيدة الصهيونية، وسبق أن نُفذ في مناطق عدة. الفارق أن ما يجري الآن يحدث أمام أنظار العالم، وبغطاء أخلاقي زائف يسمى “تسهيلات إنسانية”.
المجتمع الدولي، وخاصة أوروبا والولايات المتحدة، لا يتعامل مع ما يجري كجريمة سياسية، بل كأزمة إنسانية تحتاج إلى إدارة وموازنات. تُمرر المساعدات، وتُفتح الممرات جزئياً، ويُركّز الخطاب على الغذاء والماء والكهرباء، بينما يُترك مستقبل الفلسطينيين للانهيار الكامل. التواطؤ لا يكمن في ما يُقال، بل في ما لا يُقال: لا حديث عن وقف الحرب، لا ضغط حقيقي على إسرائيل، لا مساءلة دولية أو محاسبة قانونية، ولا حتى دعوة جدية لمنع الضم، بل قبول ضمني لما يُفرض على الأرض بالقوة.
ويأتي ذلك انسجاماً مع الرؤية الإسرائيلية، من خلال إصرار الولايات المتحدة على اعتماد صندوق GHF (صندوق المساعدات الإنسانية لغزة) كمسار رئيسي لتقديم الدعم. وجاءت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتؤكد هذا المسار، حين قال: “تبرعنا بـ60 مليون دولار للمساعدات في غزة”، في إشارة واضحة إلى استمرار العمل عبر هذا الصندوق كحل “نموذجي”: مركزي، خاضع لرقابة صارمة، ويمنع وصول أي دعم مباشر إلى حماس. هذا التوجه الأميركي يتقاطع تماماً مع المخطط الإسرائيلي لإنشاء “المدينة الإنسانية” في رفح، وهي صيغة أخرى من خطط التهجير المنظّم.
فبينما تُعرض المساعدات كغطاء إنساني، يجري فعلياً إفراغ شمال القطاع من سكانه، وتجميع النازحين في مناطق محاصَرة وتحت إشراف أمني مكثف، في ما يشبه نموذج “الترانسفير الناعم”. وبذلك، يصبح الصندوق أداة سياسية أكثر منه وسيلة إنقاذ، إذ تعتقد إسرائيل أنه يمكنها عبره ضبط ديموغرافيا القطاع والتحكم في تدفق الغذاء والدواء بما يخدم أهدافها العسكرية والتهجيرية، دون أن تتحمل مسؤولية مباشرة أمام المجتمع الدولي.
السؤال في ظل هذا المخطط: هل تدرك حماس أن إسرائيل لا تهدف فقط إلى إسقاط حكمها، بل إلى تفكيك البنية الديموغرافية والسياسية لقطاع غزة، تمهيدًا لتحويله إلى كيان هش ومحاصر تحت إشراف أمني؟ وبرغم الضربات العسكرية القاسية التي تعرّضت لها الحركة، لا تزال تحافظ على خطاب يُركّز على الصمود والبقاء، لأنها تعلم أن الإطاحة بها تعني شطب غزة ككيان فلسطيني موحّد، لا كمنطقة مأهولة فقط.
وهل تفهم حماس أن مشروع “المدينة الإنسانية” وإعادة ترسيم الخارطة السكانية يُمثّل تهديدًا وجوديًا ليس للحركة فحسب، بل لفكرة غزة نفسها كوحدة سياسية ضمن المشروع الوطني؟ لذلك، من المتوقع أن تواصل رفض أي تسويات أو تهدئة لا تضمن عودة السكان إلى شمال القطاع، أو تُمهّد لتحويل النزوح المؤقت إلى واقع دائم. لكن هل تملك الأدوات والخيارات السياسية واللوجستية لمواجهة ذلك وإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
وهل تملك حماس أو أي فصيل آخر الجرأة على الاعتراف باللحظة التاريخية التي نعيشها؟ لحظة تتطلب ما هو أكثر من الصمود: مراجعة، وحدة، واستراتيجية قادرة على مواجهة الضم لا الاكتفاء بالنجاة منه؟
في المقابل، يمرّ النظام الرسمي الفلسطيني والعربي بحالة من الغياب المطبق: لا خطاب سياسي موحّد، ولا تحرك دبلوماسي نوعي، ولا استراتيجية مقاومة. السلطة الفلسطينية تبدو كأنها في عزلة ذاتية، والفصائل مشغولة بالبقاء وسط الحصار والمجزرة. أما الدول العربية الكبرى، فقد دخلت في حالة “إدارة أزمة” تتجنّب المواجهة، وتبحث عن ترتيبات ما بعد الكارثة، بدلًا من تعطيل الكارثة نفسها.
بهذه الصورة، يتقدّم مشروع الضم بهدوء وفعالية. الضفة تُلحق قانونيًا، وغزة تُهيأ ميدانياً، والعالم يتفرّج، فيما الفلسطيني يُسحق بين نار العدوان وتراكم الخذلان. لم تعد الخشية من إعلان نوايا الضم، بل من اكتمال التنفيذ دون أن يلتفت أحد.
إن ما يُنفذ في غزة ليس فقط مجازر، بل تهيئة ديموغرافية وجغرافية لتكريس واقع جديد يُنهي المشروع الوطني الفلسطيني، ويحوّل قضية شعب إلى مجرد قضية سكان بحاجة إلى الطعام. وما تُسميه إسرائيل “عام الحسم” قد يتحول فعلًا إلى عام النهاية السياسية لفلسطين إذا استمرت الحالة الراهنة من الصمت والانتظار.
السؤال لم يعد: “متى سيبدأ الضم؟” بل: كم تبقّى من فلسطين قبل أن تُمحى ملامحها؟