عقوبات أمريكيا ضد المنظمة والسلطة خطوة استباقية لعرقلة الاعتراف بالدولة الفلسطينية

في خطوة تحمل أبعاداً سياسية عميقة، فرضت الولايات المتحدة حزمة جديدة من العقوبات على مسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية، في توقيت دولي بالغ الحساسية، وسط موجة متصاعدة من الاعترافات الأوروبية بدولة فلسطين، ما يضع العقوبات في سياق أوسع لمحاولات واشنطن فرملة هذا الزخم الدولي وإعادة ضبط المسار الفلسطيني ضمن الأطر الأمريكية التقليدية، بل ومحاولة قبر حل الدولتين.

ويؤكد كتاب ومحللون سياسيون ومختصون وأساتذة جامعات، في أحاديث منفصلة مع “ے”، أن العقوبات تتجاوز مجرد قيود قانونية أو دبلوماسية، إذ تُستخدم كأداة ضغط استراتيجي لعرقلة المساعي الفلسطينية لتدويل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والانخراط الفلسطيني في المؤسسات القضائية الدولية، لا سيما المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل.

ويرى الكتاب والمحللون والمختصون وأساتذة الجامعات أن هذا التصعيد الأمريكي، الذي يتزامن مع اقتراب الدورة القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة، يحمل رسالة واضحة: لا اعتراف دولياً بالدولة الفلسطينية دون المرور عبر البوابة الأمريكية.

لكن في المقابل، يرى المحللون والمختصون وأساتذة الجامعات أن هذه العقوبات قد تُحفّز مزيداً من التحركات الدولية الداعمة لفلسطين، وتُبرز عجز واشنطن عن احتواء التحولات المتسارعة في المواقف الأوروبية والعالمية تجاه حقوق الفلسطينيين ومطلبهم بقيام دولتهم المستقلة.

الرد الفلسطيني يجب أن يكون على مستوى الحدث

تقول أستاذة الدبلوماسية وحل الصراعات في الجامعة العربية الأمريكية، د. دلال عريقات، أن العقوبات الأمريكية الأخيرة المفروضة على منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية تأتي في سياق سياسات أمريكية قديمة تعتمد الضغط والدبلوماسية القسرية، بهدف تقويض دور المنظمة والسلطة كجهتين شرعيتين تمثلان الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية.

وتشير عريقات إلى أن ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية يحصلون أساساً على تأشيرات دخول أمريكية من نوع “waiver visa” نتيجة تصنيف المنظمة كمنظمة “إرهابية” في بعض القوانين الأمريكية، مؤكدة أن هذه العقوبات ليست جديدة بل تكرار لأساليب ضغط معتادة تستخدمها واشنطن لإخضاع المسار السياسي الفلسطيني لإملاءاتها.

وتعتبر عريقات أن الرد الفلسطيني يجب أن يكون على مستوى الحدث، عبر توجيه رسالة رسمية إلى السفير مايك هاكابي، الذي زار رام الله مؤخراً بصفة رسمية وبدعوة من منظمة التحرير، وذلك لإبلاغ إدارة ترامب بشكل مباشر بأن المنظمة هي الشريك الشرعي والوحيد في أي عملية سلام قادمة.

وتوضح عريقات أن هذه الإجراءات العقابية تتناقض مع تصريحات واشنطن حول دعم السلام، بل وتُظهر نفاقاً سياسياً عبر معاقبة الجهة الفلسطينية الوحيدة الملتزمة بالشرعية الدولية.

ردّ مباشر على الزخم الدبلوماسي لصالح فلسطين

وتؤكد عريقات أن العقوبات جاءت كردّ فعل مباشر على الزخم الدبلوماسي المتنامي لصالح فلسطين، خاصة مع المبادرة السعودية-الفرنسية وتصاعد الاعترافات بدولة فلسطين، وما وُصف بـ”تسونامي دبلوماسي”، مما أقلق الإدارة الأمريكية التي تسعى للحفاظ على سيطرتها التقليدية على الملف الفلسطيني.

وترى عريقات أن العقوبات تهدف إلى تحجيم دور منظمة التحرير وإقصائها من المنابر الدولية كالأمم المتحدة، وهو ما يضر فعلياً بتمثيل القضية الفلسطينية ويزيد من تعقيد جهود تحقيق السلام.

وتقدم عريقات ثلاث خطوات للمواجهة الفلسطينية: أولاً، التمسك بالشرعية الدولية والعمل على تعزيز جبهة الدول المؤيدة لفلسطين؛ ثانياً، التواصل السياسي الذكي عبر إرسال رسائل رسمية وشعبية للولايات المتحدة للتأكيد على دور منظمة التحرير كشريك سلام شرعي؛ وأخيراً، الاستثمار في الرواية الفلسطينية من خلال فضح العقوبات الأمريكية باعتبارها استهدافاً للضحية وتواطؤاً واضحاً مع الاحتلال، بما يعزز مناصرة القضية الفلسطينية عالمياً.

توقيت الإعلان الأمريكي ليس عفوياً

من جانبه، يقول الكاتب والمحلل السياسي المختص في الشأن الأمريكي والعلاقات الدولية، د. حسين الديك، أن العقوبات التي أعلنت عنها وزارة الخارجية الأمريكية مؤخراً ضد منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية تأتي في إطار توظيف القانون الأمريكي الداخلي كأداة سياسية للضغط، في وقت حساس يشهد تحولاً دولياً واسعاً نحو الاعتراف بدولة فلسطين.

ويوضح الديك أن الولايات المتحدة لا تزال تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية “منظمة إرهابية” بموجب القانون الذي أقره الكونغرس الأمريكي عام 1989، رغم وجود تعاون فعلي بين الجانبين الفلسطيني والأمريكي خلال فترات الرؤساء بوش الأب، وكلينتون، وبوش الابن، وأوباما، وترامب، وبايدن.

إلا أن تفعيل هذا القانون في المرحلة الراهنة، حسب الديك، يعكس محاولة أمريكية، مدفوعة باللوبي الصهيوني ومؤسسات “الدولة العميقة”، لمواجهة المد الدولي المتزايد نحو دعم الحقوق الفلسطينية وعلى رأسها حق تقرير المصير والاعتراف بالدولة الفلسطينية.

ويشير الديك إلى أن توقيت هذا الإعلان ليس عفوياً، بل يتزامن مع استعداد عدد كبير من الدول الأوروبية للاعتراف الرسمي بدولة فلسطين خلال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة في أيلول/سبتمبر في نيويورك.

ويرى الديك أن هذا التحرك الأمريكي يتناغم مع الموقف الإسرائيلي الرافض لأي اعتراف بدولة فلسطينية، والذي يسعى إلى فرض “احتلال مستدام بلا ثمن” عبر سياسات الضم والاستيطان ورفض التفاوض.

وفيما يتعلق بالمبررات الأمريكية لفرض العقوبات، يوضح الديك أن واشنطن بررت القرار بعدة حجج أبرزها توجه الفلسطينيين إلى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وكذلك دفع رواتب الأسرى والشهداء أو ما تسميه التحريض بالمناهج.

ذرائع أمريكية باطلة

لكن الديك يشدد على أن تقديم القضية إلى محكمة العدل لم يتم من قبل فلسطين، بل من قبل دولة جنوب إفريقيا، بسبب أنظمة المحكمة التي لا تسمح للدول غير الأعضاء الدائمين في الأمم المتحدة، مثل فلسطين، برفع دعاوى مباشرة. معتبراً أن التذرع بهذا السبب “باطل وغير صحيح”.

أما بشأن المحكمة الجنائية الدولية، فيؤكد الديك أن الدعوى المتعلقة بانتهاكات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة تعود إلى عام 2021، وقد تقدمت بها دولة فلسطين، مع ضم انتهاكات جديدة للملف القائم.

ويتناول الديك التبريرات الأمريكية المتعلقة بـ”التحريض” والمناهج التعليمية الفلسطينية، ودفع رواتب الأسرى وذوي الشهداء، مشيراً إلى أن هذه الحجج تتكرر باستمرار لتبرير الضغط السياسي على القيادة الفلسطينية.

وفي تفاصيل العقوبات، يشير الديك إلى أنها تشمل حظر منح التأشيرات لقيادات في منظمة التحرير والسلطة، بما في ذلك الوزراء الحاليون والسابقون وكبار الموظفين، إضافة إلى مشروع قانون أمريكي جديد يسمح لأي مواطن أمريكي تعرض لأذى في الأراضي الفلسطينية أو إسرائيل، بمقاضاة الفلسطينيين في المحاكم الأمريكية للحصول على تعويضات.

ويلفت الديك إلى أن العقوبات تشمل أيضاً تقليص مستوى التمثيل السياسي، موضحاً أن الولايات المتحدة أغلقت مكتب منظمة التحرير في واشنطن منذ عهد ترامب، وحولت القنصلية في القدس إلى وحدة الشؤون الفلسطينية، ثم إلى “وحدة خدمة الجمهور الفلسطيني”، ما يشير إلى تراجع الاعتراف الأمريكي بالسلطة الفلسطينية ومؤسساتها التمثيلية.

ويؤكد الديك على ضرورة مواجهة هذه العقوبات عبر موقف فلسطيني موحد، مستند إلى دعم عربي ودولي واسع، مشدداً على أهمية استثمار التحولات العالمية لصالح القضية الفلسطينية، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي وتجديد الشرعيات الوطنية، لتعزيز القدرة على مواجهة السياسات الأمريكية والإسرائيلية أمام المجتمع الدولي.

 رسالة أمريكية مباشرة إلى الدول الأوروبية

بدوره، يرى الكاتب الصحفي نبهان خريشة أن العقوبات الأمريكية الأخيرة التي فرضت على عدد من مسؤولي السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير – رغم عدم الإعلان عن أسمائهم – ليست مجرد إجراء روتيني أو تقني كما توحي به وزارة الخارجية الأمريكية، بل تعبّر عن موقف سياسي واضح يتزامن مع تحوّل دبلوماسي عالمي نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خاصة في أوروبا.

ويوضح خريشة أن العقوبات – المتمثلة في رفض منح تأشيرات دخول للمسؤولين الفلسطينيين إلى الولايات المتحدة – جاءت في توقيت سياسي حساس يسبق اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المقررة في أيلول/سبتمبر المقبل، حيث يتوقع أن يشهد هذا الاجتماع مزيداً من الاعترافات الرسمية بدولة فلسطين.

ويشير خريشة إلى أن توقيت العقوبات يكشف أنها رسالة أمريكية مباشرة إلى الدول الأوروبية التي بدأت تتخذ خطوات فعلية نحو الاعتراف الجماعي أو الفردي بفلسطين، مفادها بأن واشنطن ترفض أي تحرك دبلوماسي فلسطيني لا يمر من بوابتها.

ويقول خريشة: “واشنطن تستخدم العقوبات كأداة ضغط لإفشال المساعي الفلسطينية على الساحة الدولية”، موضحاً أن ذلك يُظهر عدم قبول الولايات المتحدة بأي مسار سياسي بديل عن “المفاوضات الثنائية”، التي أثبتت فشلها بسبب تعنت إسرائيل ورفضها الالتزام بأي أفق سياسي.

ويرى خريشة أن العقوبات الأمريكية، على عكس ما قد يُفهم، تعكس ضعفاً وليس قوة، فكلما ازدادت الضغوط الدولية على إسرائيل، وتصاعدت وتيرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ارتفعت حدة التحرك الأمريكي تجاه التحركات الفلسطينية.

ويصف خريشة هذه الخطوات بأنها “رد فعل من إدارة فقدت سيطرتها على الرواية الأحادية التي هيمنت لسنوات على المؤسسات الدولية”.

ويعتبر خريشة أن هذه العقوبات قد تؤدي إلى نتائج عكسية، إذ قد تدفع الدول الأوروبية – بدافع من التحدي واستقلالية القرار – إلى الإسراع في الاعتراف بالدولة الفلسطينية، خاصة في ظل الجرائم المستمرة في قطاع غزة.

عقوبات تربك التحرك الرسمي في المحافل الدولية

ويشير خريشة إلى أن العقوبات، وإن بدت شكلية، قد تؤثر على مشاركة وفود فلسطينية في أعمال الأمم المتحدة، مما يربك التحرك الرسمي في المحافل الدولية.

ويؤكد خريشة أن أخطر ما في هذه العقوبات هو كونها تغطية سياسية جديدة لجرائم الاحتلال، عبر تأكيد الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل، حتى في ظل الجرائم اليومية في غزة.

ويعتبر خريشة أن استمرار هذا الانحياز يشجع الاحتلال على التمادي في سياساته العدوانية.

ويدعو خريشة إلى ضرورة الرد الفلسطيني الموحد على هذه العقوبات، من خلال تجاوز الانقسام السياسي، وتوحيد الجبهة الداخلية، وتكثيف الجهود الدبلوماسية أمام المحاكم الدولية، خاصة محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، إلى جانب تنشيط العمل الشعبي والإعلامي والشتاتي في أوروبا وأمريكا لدعم الاعتراف الدولي.

ويعتقد خريشة أن هذه العقوبات الأمريكية لن تكون قادرة على وقف مسار الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة، طالما بقي هناك قرار فلسطيني موحد، وأداء دبلوماسي متناغم بين القيادة الرسمية والحراك الشعبي.

قطع الطريق على المسار الأوروبي

من جهتها، تنتقد الأكاديمية والمحللة السياسية المصرية، د. إيريني سعيد، السياسات الأمريكية الأخيرة تجاه السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، معتبرة أن واشنطن تتبنى سياسة التوازنات في سياق محاولة لقطع الطريق على المسار الأوروبي المتنامي نحو الاعتراف بدولة فلسطين وإفشاله، عبر دعم غير مشروط لإسرائيل.

وتلفت سعيد إلى أن هذا النهج الأمريكي يأتي في خلفية قرارات المحكمة الجنائية الدولية بحق كل من رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، ما يشير إلى وجود محاولة لتقويض الالتزام الأخلاقي والقيمي الذي أبدته عدة دول أوروبية تجاه القضية الفلسطينية، لا سيما في ظل المجازر المتواصلة في قطاع غزة.

وتوضح سعيد أن الإدارة الأمريكية، بدلاً من التفاعل مع متغيرات المشهد الدولي، اختارت تسهيل “آليات الحرب الصامتة” التي تدور في الضفة الغربية، من خلال غضّ الطرف عن الممارسات الممنهجة تجاه الفلسطينيين، وخاصة المتعلقة بتوسع المستوطنات واعتداءات المستوطنين اليومية.

وتعتبر سعيد أن التحرك الأمريكي هذا لا يأتي في إطار استراتيجي مدروس، بل يكشف عن غياب كامل للرؤية والتخطيط على المستويين الأمريكي والإسرائيلي.

فشل في الميدان وشروط تفاوضية تعجيزية

وتوضح سعيد أن إسرائيل، وبعد فشلها في تحقيق أهدافها العسكرية في قطاع غزة، لجأت إلى التمسك بشروط تفاوضية تعجيزية، من بينها مطالبة حماس بتسليم أسلحتها.

وتشير سعيد إلى أن هذا الطرح يثير تساؤلات جوهرية: “هل تمتلك إسرائيل أية دراسات أو إحصاءات دقيقة حول حجم ترسانة حماس؟ هل هي على علم فعلي بمصادر تمويلها؟ والأهم، ما هي المعايير التي تتيح التأكد من تسليم كامل الأسلحة؟”.

وتشير سعيد إلى أن الرغبة الإسرائيلية في استمرار السيطرة العسكرية الدائمة على قطاع غزة واضحة، وأن هذا التوجه يلقى دعماً أمريكياً سياسياً ودبلوماسياً لا محدوداً، رغم تصاعد المناهضات الداخلية داخل الولايات المتحدة نفسها ضد العلاقة مع تل أبيب.

وتعتبر سعيد أن هذا الاصطفاف الأمريكي مع إسرائيل من شأنه تصعيد التوترات في المنطقة بشكل كبير، وإطالة أمد الصراع بدلاً من المساهمة في إنهائه عبر حلول عادلة.

تاريخ طويل من العلاقات المعقدة بين أمريكا والمنظمة

ويوضح رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية، د. رائد الدبعي، أن قرار وزارة الخارجية الأمريكية بفرض قيود على منح تأشيرات دخول لمسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية، ليس بالأمر الجديد، بل يأتي في سياق تاريخ طويل من العلاقات المعقدة والمرتبطة بسلسلة من القوانين الأمريكية المقيدة للتعامل مع الفلسطينيين.

ويؤكد الدبعي أن العلاقة بين منظمة التحرير والولايات المتحدة تأسست على أساس قانون التزامات منظمة التحرير لعام 1989، الذي فرض على المنظمة التزامات محددة، من بينها تقديم تقارير دورية إلى الكونغرس، والذي يتيح للولايات المتحدة فرض إجراءات عقابية مثل تقليص التمثيل أو تقييد منح التأشيرات عند مخالفة تلك الالتزامات.

ويشير الدبعي إلى أن قانون التزامات السلام في الشرق الأوسط لعام 2002 أضاف نظام تقارير نصف سنوي، إلى جانب عقوبات إضافية تشمل خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي ومنع منح التأشيرات، وصولاً إلى إغلاق مكتب المنظمة في واشنطن عام 2018.

ويلفت الدبعي إلى أن واشنطن سبق وأن علّقت مساعداتها للسلطة الفلسطينية بعد فوز حركة “حماس” في الانتخابات عام 2006، لتعود لاحقاً وتستأنفها في ظل حكومة د. سلام فياض عام 2007، قبل أن يتم سن “قانون تايلور فورس” في 2018، الذي قيد دفع المساعدات إلا في حال أوقفت السلطة صرف مخصصات الأسرى الفلسطينيين، وشرط إدانة المقاومة ضد إسرائيل.

ويشدد الدبعي على أن هذه العقوبات تمثل استمرارية للسياسات الأمريكية المنحازة لإسرائيل، وتعكس التحالف الاستراتيجي العميق بين الطرفين، إذ تنظر واشنطن إلى إسرائيل باعتبارها كياناً وظيفياً يخدم مصالحها في المنطقة.

 رد فعل على تحركات القيادة الفلسطينية

ويشير الدبعي إلى أن هذا الموقف تغذيه أيضاً أساطير دينية تفسر العهد القديم بشكل حرفي، تتبناها الكنائس البروتستانتية الأصولية، وتتمثل في حتمية بناء “الهيكل” المزعوم كشرط لعودة المسيح، ما يجعل من دعم إسرائيل مسألة دينية وعقائدية لدى شريحة واسعة داخل الإدارة الجمهورية الأمريكية.

ويرى الدبعي أن تصعيد العقوبات مؤخراً جاء كرد فعل على تحركات القيادة الفلسطينية في المحافل الدولية، واستثمار الزخم الدولي الناتج عن المجازر في قطاع غزة والاعترافات المتتالية بدولة فلسطين في أوروبا الغربية، وهو ما تعتبره واشنطن “تمرداً” على احتكارها لمسار التسوية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

ويوضح الدبعي أن الولايات المتحدة تسعى من خلال العقوبات إلى ردع منظمة التحرير عن الاستمرار في تدويل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، واللجوء إلى المنظمات الدولية بعد فشل مساعي التسوية الثنائية، رغم أن تلك العقوبات تمثل خرقاً لاتفاقية مقر الأمم المتحدة لعام 1947، التي تلزم الدولة المضيفة بتسهيل دخول المسؤولين لحضور الاجتماعات الدولية.

ويشير الدبعي إلى أن الولايات المتحدة لا تملك قانونياً منع إصدار تأشيرة دخول من نوع C2 لحضور اجتماعات الأمم المتحدة، لكن سطوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية تجعلها قادرة على التأثير في مواقف العديد من الدول، ما قد يُبطئ من وتيرة الاعترافات الدولية بدولة فلسطين.

ويؤكد الدبعي أن القيادة الفلسطينية يجب أن تستمر في استثمار الزخم الشعبي والبرلماني والطلابي في العالم لصالح القضية الفلسطينية، وأن تعزز الدبلوماسية العامة والرقمية، وتدعو لحوار وطني شامل يفضي إلى برنامج وطني موحد قائم على الثوابت، لتعزيز الصمود وتحصين الموقف الفلسطيني.

انحياز أمريكي تام للرؤية الإسرائيلية

بدوره، يرى مدير مركز القدس للدراسات السياسية عريب الرنتاوي أن العقوبات الأمريكية الجديدة التي طالت شخصيات وكيانات من السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية لا يمكن تفسيرها إلا باعتبارها انعكاساً للموقف الأمريكي الثابت الرافض للاعتراف الصريح بقيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة على حدود عام 1967، ورفضاً لحل الدولتين.

ويوضح الرنتاوي أن الولايات المتحدة، بدلاً من تقديم رؤية استراتيجية لليوم التالي في فلسطين بعد الحرب على غزة، اختارت الانحياز التام للرؤية الإسرائيلية، بل باتت سياساتها أقرب إلى ترجمة حرفية للسياسات الإسرائيلية إلى اللغة الإنجليزية.

وبعتبر الرنتاوي أن هناك قاسماً مشتركاً بين حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل وإدارة اليمين الشعبوي في الولايات المتحدة، يتمثل في محاربة فكرة الدولة الفلسطينية والعمل على إجهاض أي فرصة لإقامتها.

ويشير الرنتاوي إلى أن واشنطن قادت حملة شرسة ضد مؤتمر نيويورك لبحث حل الدولتين، ومارست ضغوطاً شديدة على دول عدة لثنيها عن المشاركة فيه، وتصف قرارات حلفائها الأوروبيين الداعية للاعتراف بدولة فلسطين بأنها “سخيفة وعديمة القيمة”، في تجاهل واضح للإجماع الدولي المتصاعد لصالح الحقوق الفلسطينية.

نموذج أمريكي فج للمعايير المزدوجة

وفي سياق حديثه عن الازدواجية الأمريكية، يلفت الرنتاوي إلى أن الإدارة الأمريكية رفعت “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب، وتُشيد بقادتها باعتبارهم “شباباً شجعاناً”، بينما تُبقي كافة مؤسسات الشعب الفلسطيني، بما فيها منظمة التحرير والسلطة الوطنية، على قوائمها السوداء، وتفرض عليها عقوبات متزايدة.

ويعتبر الرنتاوي أن هذا يمثل “نموذجاً فجاً للمعايير المزدوجة التي تنتهجها واشنطن في سياستها الخارجية”.

ويؤكد الرنتاوي أن هذه العقوبات تُعد عقبة جديدة تضعها الولايات المتحدة في وجه ما وصفه بـ”يقظة المجتمع الدولي وتسونامي الاعترافات” بالدولة الفلسطينية.

ويقول الرنتاوي: “لا معنى لدولة فلسطينية بدون السلطة ولا المنظمة، وأيضا لا معنى طالما أن واشنطن تواصل تصنيف حماس كمنظمة إرهابية، وتستهدف الكيانات التمثيلية للشعب الفلسطيني بالعقوبات والشيطنة”.

ويتوقع الرنتاوي أن يشجع هذا السلوك واشنطن وتل أبيب على مطالبة الفلسطينيين بالمزيد، ما سيقود في النهاية إلى تقويض المشروع الوطني الفلسطيني وتحويل السلطة والمنظمة إلى هياكل شكلية تفتقر إلى أي مضمون سيادي، وربما إلى مجرد كيان أشبه بـ”روابط قرى” بصيغة حديثة لا تعكس تطلعات الشعب الفلسطيني لدولة مستقلة ذات سيادة.

disqus comments here