شـهـادات مـن جـحـيـم مـديـنـة يـفـتـخر مـحـتـلـهـا بـحـرقـهـا

غزة تحترق، هاتان الكلمتان عندما سُمعتا لأول مرة يوم الثلاثاء في 16 أيلول/سبتمبر الجاري، اعتُبرتا صرخة إنذار، لكنهما لم تكونا كذلك، بل كانتا صرخة فرح مرعبة؛ فبهاتين الكلمتين ، أكد وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، ما كان متوقعاً منذ شهور: الغزو البري لمدينة غزة من قبل الجيش الإسرائيلي، وقد أظهرت الصور الواردة إلينا من القطاع المحاصر مدنيين يفرون على عربات محملة بالكراسي والحقائب والأطفال؛ رجال ونساء يفرون إلى العدم، تاركين الأنقاض بلا مأوى، إذ لم يبقَ لأحد في مدينة غزة، التي دُمّر أكثر من 75% من مساحتها، أي مأوى؛ لا شيء يبرر هذا الهجوم الجديد، المروع كما وصفته لندن؛ أمام هذا الهجوم البري على غزة، الذي بدأ بموافقة الولايات المتحدة، يبدو المجتمع الدولي مشلولاً" (1).

هذا ما ورد في افتتاحية صحيفة "لاكروا" الفرنسية يوم الثلاثاء الماضي، تعليقاً على الهجوم البري الواسع  على مدينة غزة، الذي أطلقه جيش الاحتلال، غير عابئ بالإدانة الدولية الواسعة، بما في ذلك من الأمم المتحدة التي اتهمت لجنة تحقيق تابعة لها إسرائيل لأول مرة بارتكاب "إبادة جماعية" في قطاع غزة، بينما طالب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، بإنهاء "المذبحة"، مشيراً أيضاً إلى "أدلة متزايدة" على "إبادة جماعية". 

هذا الهجوم حظي، كما يبدو، بدعم الإدارة الأميركية، إذ أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، قبل مغادرته إسرائيل يوم الثلاثاء: "بدأ الإسرائيليون عملياتهم هناك (مدينة غزة)؛ لدينا فرصة ضئيلة للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار"، مشيراً إلى "بضعة أيام، وربما بضعة أسابيع". بينما حذر الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أن حركة "حماس" ستواجه "مشكلة كبيرة" إذا "استخدمت الرهائن دروعاً بشرية في مواجهة القوات الإسرائيلية المتقدمة" (2).

"لعل الجحيم أهون"

نهاراً، وأحياناً ليلاً، سيراً على الأقدام، أو بالسيارات، أو على عربات تجرها الحمير، أو في شاحنات، يغادر فلسطينيون مدينة غزة حاملين بعض أمتعتهم الشخصية، بعد دعوات إسرائيلية للإخلاء، وفقاً لصور وكالة "فرانس برس"، التي تنقل: "الأمر أشبه بيوم القيامة أو الجحيم، ولكن حتى الجحيم سيكون أهون"، صاحت فاطمة لباد، 36 عاماً، التي قطعت مسافة عشرة كيلومترات تقريباً سيراً على الأقدام مع أطفالها الأربعة للوصول إلى دير البلح، وسط قطاع غزة بعد فرارها من مدينة غزة. وقالت لوكالة فرانس برس: "اضطررت للنوم مع أطفالي في الشارع". لكن أم أحمد يونس، 44 عاماً، تقول إنها "لا تستطيع تحمل تكاليف المواصلات، كما لا توجد خيام، والأسعار باهظة، الموت أرخص". "كفى! نريد أن نعيش، لا نريد أن نموت (...) قل لنتنياهو إننا لا نريد أن نموت!"  قال محمد الدنف من موقع الهجوم، بينما كان السكان يساعدون في البحث عن ناجين تحت الأنقاض (3). 

أما رياض رشوان، وهو أب لطفلين يسكن في حي الرمال في مدينة غزة، فقد أكد لصحيفة "ليبراسيون" أنه رضخ للبقاء في مدينة غزة، رغم تكثيف الغارات الإسرائيلية، ذلك "إن الرحلة كانت باهظة الثمن، ولم يكن يدري إلى أين يتجه"؛ لكن الوضع ازداد تدهوراً مع بدء العمليات البرية ، إذ "ساد ذعرٌ شامل بعد أن قُصفت عدة مبانٍ ليل الاثنين إلى الثلاثاء"،  لذلك، عثر رياض رشوان على سيارة صديق له على وجه السرعة، وغادر مع عائلته، في اتجاه دير البلح، وسط القطاع (4).

"لم يبقَ لنا ما نأخذه، فقدنا كل شيء" 

"طفلان منهكان، مُتكدسان فوق بعضهما البعض في مؤخرة مقطورة في منتصف الليل؛ ثلاث شابات يركضن للقبض على صندوق شاحنة صغيرة كُدّست عليها الحقائب على عجل؛ هذه المركبات، المُفروشة على أسطحها، والتي صوّرتها ونشرتها الصحفية سلمى القدومي يوم الثلاثاء في 16 أيلول، تشهد على نفي قسري جديد في قطاع غزة، نفي مئات الآلاف من سكان مدينة غزة، في مواجهة عمليات الجيش الإسرائيلي".

هذا ما ورد في تقرير أعدّه صحافيان لـ "فرانس إنفو" في 18 من الشهر الجاري. وقالت الصحافية والمصورة سلمى القدومي، التي اتصلت بها "فرانس إنفو"، إنها فرت للتو مع شقيقها وأطفالها الثلاثة، وأضافت هذه الغزية البالغة من العمر 35 عاماً "لقد نزح أبناء إخوتي 23 مرة" منذ بدء الحرب، وأنا "أشعر بحزن شديد، وأشعر بالأسف الشديد عليهم". تواصلت سلمى مع الصحافيين الفرنسيين عبر واتساب، ووصفت في رسائل صوتية - بسبب انقطاع الإنترنت - رحلة استغرقت 20 ساعة بين حي تل الهوى جنوب مدينة غزة ودير البلح، وسط القطاع؛ رحلة لا تتجاوز 17 كيلومتراً، لكنها طالت بسبب حجم عمليات الإخلاء، وأكدت: "عادةً ما تستغرق هذه الرحلة 30 دقيقة". هربت المرأة الفلسطينية وشقيقها وأطفالها على وقع أصوات الطائرات المسيرة والقصف الإسرائيلي؛ منفى محفوف بالمخاطر في محاولة، مرة أخرى، للعثور على بصيص أمل. "كان الإخلاء خطيراً للغاية؛ بكى أبناء إخوتي من شدة الضجيج، كان أحدهم متعباً من الرحلة، لكنه لم يستطع النوم". عند وصولنا إلى دير البلح، "رأينا حشوداً ومساحةً محدودةً لنصب الخيام"، حسبما أفادت، كما لاحظت صعوبةً بالغةً في الوصول إلى المياه من حولها، نظراً لعدد النازحين في وسط القطاع. "أنت محظوظ إن وجدتَ بعضاً منها". الوضع أقل خطورةً من مدينة غزة، لكن "دير البلح ليست منطقةً آمنةً؛ هناك قصفٌ مستمر"، كما تؤكد. 

أما صفاء، الطالبة البالغة من العمر 21 عاماً، والتي هي على وشك مغادرة مدينة غزة، فتقول: "ماذا تأخذين معك عندما تضطرين للإخلاء حوالي عشر مرات خلال عامين؟ "، وتضيف وهي تبكي: "في الحقيقة، لم يتبقَّ لنا ما نحمله بعد أن فقدنا كل شيء، فقد قُصف منزلنا، والآن نُجبر على الفرار جنوباً،  ليس لدينا مكان نذهب إليه". قبل بضعة أيام، استهدفت غارة جوية إسرائيلية حيّها، فقتل اثنان من أشقائها، محمد وثائر، 20 و40 عاماً وابن أخيها منصور، 10 أعوام، في الغارة الجوية؛ وجوههم الآن تزيّن حسابها على واتساب. كانت آخر رسالة أرسلتها إلينا بمثابة صرخة يأس أخرى: "الوضع هنا أخطر من أن تصفه الكلمات" (5).

"أطفالٌ مُمزّقون إرباً"

قال أبو عبد زقوت من أمام أنقاض مبنى تعرّض لغارة ليلًا في حي التفاح في مدينة غزة: "أخرجنا أطفالًا مُمزّقين إرباً". وأفادت عائلة زقوت باستشهاد 23 من أفرادها في الغارة. "كان هناك حوالي 50 شخصاً في الداخل، بينهم نساء وأطفال، ولا أعرف لماذا قصفوا"  قال أبو عبد زقوت بانفعال. وبينما كان الرجال يكافحون لاستخراج جثة من كومة من شظايا الخرسانة، استمر صوت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية، علّقت ميساء أبو جمعة، 38 عاماً، قائلة: "موتنا قريب، مثل موت غيرنا من السكان".

يقول إبراهيم البشيتي، 35 عاماً، الذي يسكن جنوب المدينة: "نحن خائفون للغاية، غادر الكثير من الناس من حولنا، ولا نعرف ما ينتظرنا". بعد سماعه دوي انفجارات ليلاً، يقول إنه خرج إلى حيّه، حيّ الصبرة، ليرى مشهداً من الدمار، وأضاف: "سمعنا صراخاً من تحت أنقاض مبنى مدمر". أما في غرب مدينة غزة، فقد دمر جيش الاحتلال برج الغفري، أحد أطول أبراج المدينة، وعلّق أسامة أبو حصيرة على تدميره قائلاً: "أبلغونا بنيتهم هدم البرج، فخرجنا"، نافياَ مزاعم جيش الاحتلال بأن المباني مستهدفة لأنها تُستخدم من قِبل مقاتلي حركة "حماس". "من حوله، كل شيء رمادي، المارة يحدقون مذهولين في هذا المشهد المروع، بحر من الأنقاض على مد البصر" (6).

بينما تحترق مدينة غزة، نتنياهو يطمح إلى "إسبرطة عظمى"

اتخذ بنيامين نتنياهو قرار الغزو البري لمدينة غزة، على الرغم من معارضة قادة جيش الاحتلال والإدانة الدولية الواسعة، لأنه يريد إبقاء إسرائيل في حالة حرب مستمرة. فهو أعلن، عشية انطلاق عملية غزو المدينة،  أنه يريد أن يجعل من إسرائيل "إسبرطة عظمى"، في إشارة إلى المدينة-الدولة العسكرية في اليونان القديمة، التي اشتهرت بتنظيمها العسكري، وانضباطها، وطاعة سكانها الصارمة للسلطة وتراتبيتها الاجتماعية التي لم يتمتع فيه الجميع بالحقوق نفسها، بل استُعبد البعض.

وقد قدّر تحليل نشره موقع "فرانس أنتر" أن بنيامين نتنياهو يريد إيصال ثلاث رسائل من وراء رغبته في "إعادة إنتاج المجتمع الإسبرطي الذي كان سائداً قبل 2500 عام"، وذلك "بينما تعيش إسرائيل في حالة حرب دائمة منذ ما يقرب من عامين، وهي أطول فترة صراع في تاريخها"، وهذه الرسائل هي:

الرسالة الأولى هي "حالة حرب تُمثل جزءاً من عملية طويلة الأمد؛ فالحرب ليست لحظة شاذة بين فترات طبيعية، كما كانت في الماضي (إذا ما تجاهلنا احتلال الأراضي الفلسطينية)، بل هي الآن حالة دائمة.

كما إنها، على غرار إسبرطة، اقتصاد حرب، يشمل اكتفاءً ذاتياً نسبياً في إنتاج الأسلحة"؛ أما الرسالة الثانية فهي "رسالة عزلة واعية، رسالة اكتفاء ذاتي، إذ حذّر بنيامين نتنياهو مواطنيه من أن إسرائيل ستضطر إلى تحمّل هذه العزلة الدولية النسبية، وأشار إلى الانتقادات المتزايدة من أوروبا، والتي عزاها إلى هجرة المسلمين والدعاية من قطر والصين على وسائل التواصل الاجتماعي"؛ بينما تتمثّل الرسالة الثالثة في التسلح بـ "بروح إسبرطة" لمواجهة الانتقادات الخارجية من خلال القول "لا" للاعتراف بدولة فلسطين من جانب فرنسا ودول أخرى عُرفت بصداقتها الطويلة لإسرائيل، "لا" لاحتمال فرض عقوبات أوروبية لأول مرة على إسرائيل وهو احتمال يُناقش في بروكسل، "لا" للجنة خبراء الأمم المتحدة التي استخلصت أن إبادة جماعية تجري في قطاع غزة، و "لا" للدول العربية، بما فيها الدول الموقعة على "اتفاقيات إبراهيم"، التي اجتمعت في قمة بعد الغارة على قطر (7).

يتخوفون على مستقبل إسرائيل، لكنهم لا يبالون بمستقبل الفلسطينيين! 

يرى العديد من الإسرائيليين وخصوم بنيامين نتنياهو السياسيون، الذين كانوا يحتجون حتى قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ضد مشاريع نتنياهو "غير الليبرالية" وائتلافه اليميني  المسياني، أن الإشارة إلى إسبرطة تنطوي على "انحراف استبدادي"، وأن الدعوة إلى "عسكرة المجتمع" بهذه الطريقة تُحيي الخوف من تآكل "الديمقراطية". لكنهم  يتنكرون، مثل نتنياهو، لحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية ولا يبالون بمعاناته ولا بمستقبله.

فرئيس الوزراء السابق إيهود باراك علّق على تصريحات نتنياهو بالقول: "إنه ضرب من الجنون؛ فإسبرطة الخارقة هي نهاية البلاد، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، إنها بالتأكيد إسرائيل أخرى تُصنع في هذه الحروب التي لا تنتهي، ولا علاقة لها بإسرائيل الآباء المؤسسين". أما زعيم المعارضة يائير لابيد، فأشار في بيان إلى "أن العزلة ليست حتمية، إنها نتيجة سياسة سيئة، سياسة فاشلة لنتنياهو وحكومته، التي حوّلت إسرائيل إلى دولة من دول العالم الثالث، ولا تبذل حتى أي جهد لتغيير هذا الوضع". بينما أعرب رئيس حزب "الديمقراطيون" يائير غولان عن غضبه قائلاً: "نتنياهو يبارك مواطني إسرائيل في رأس السنة: لحماية مقعدي، أحتاج إلى حرب أبدية وعزلة، وستضحون جميعاً بالدولة والاقتصاد ومستقبل أبنائكم وارتباطهم بالعالم"، وأضاف: "ردنا على هذا الرجل الحقير: هذا العام، سنستبدلك وننقذ إسرائيل". 

وقال رئيس جمعية مصنعي إسرائيل، رون تومر، إن نتنياهو "صرح علناً بما شعرنا به وما حذرنا منه: صورة إسرائيل التجارية، المرادفة للإبداع والطلب والنجاح، قد شوهت بشدة في جميع أنحاء العالم"، معتبراً أن "الاكتفاء الذاتي في السوق سيكون كارثة على الاقتصاد الإسرائيلي وسيؤثر على جودة حياة كل مواطن" بينما تساءل منتدى "التكنولوجيا العالية من أجل إسرائيل" في بيان: "هل هذه هي رؤية رئيس الوزراء؟ أن نعود إلى بائعي البرتقال؟". وأعلن منتدى الأعمال الإسرائيلي، الذي يمثل 200 من أكبر شركات البلاد، في بيان: "نحن لسنا إسبرطة"، مضيفاً أن سياسات نتنياهو تقود البلاد "نحو هاوية سياسية واقتصادية واجتماعية، هاوية ستُهدد وجودنا في إسرائيل". 

من جانبه، احتج أرنون بار دافيد، زعيم نقابة الهستدروت، قائلاً: "لا أريد أن أكون إسبرطة... نحن نستحق السلام؛ المجتمع الإسرائيلي منهك، ومكانتنا في العالم متدنية للغاية". وكانت المؤشرات الرئيسية لبورصة تل أبيب قد انخفضت بنحو 2%، بعد دقائق فقط من خطاب رئيس الحكومة، قبل أن تستعيد نصف تلك الخسارة تقريباً في وقت لاحق من اليوم (8). 

خاتمة

باستحضار إسبرطة، يُحوّل بنيامين نتنياهو العزلة الدولية التي تعاني منها إسرائيل بسبب حرب الإبادة في قطاع غزة إلى "فضيلة بطولية: أمة مُحاصرة، لكنها لا تُقهر بفضل صمودها"، ويتوجب عليها "تسريع الاكتفاء الذاتي وعسكرة الاقتصاد"؛ وفي هذا الصدد، يقول مستشار من الليكود مازحاً: "أثينا هي أوروبا، بعقوباتها وأخلاقياتها، ونحن نختار إسبرطة: ننتج، نقاتل، نبقى". بينما يوضح البروفيسور إفرايم إنبار، الخبير الاستراتيجي في "معهد دراسات الأمن القومي": "إسبرطة تعني البقاء من خلال القوة والاكتفاء الذاتي".

ويضيف: "يقول نتنياهو: لسنا بحاجة إلى العالم؛ نحن حصن منيع؛ لهذا الخطاب هدف مزدوج. أولاً حشد شعبٍ أنهكته الحرب، وثانياً مواجهة الضغط الدولي"

disqus comments here