ج. بوست: صدام الساسة والجنرالات في إسرائيل.. الجيش يتفوق على الحكومة
تل أبيب: كشف الخلاف المحتدم بين وزير جيش الاحتلال يسرائيل كاتس ورئيس الأركان إيال زامير عن سمة إسرائيلية واضحة: ميل الرأي العام للوقوف تلقائيًا إلى جانب الجيش عندما يصطدم بالقيادة السياسية.
وقالت جيروزاليم بوست العبرية في تقرير لها يوم الجمعة، شهد هذا الأسبوع مواجهة قاسية خرجت إلى العلن بين إسرائيل كاتس وإيال زامير، هيمنت على العناوين الرئيسية وأثارت تساؤلات حول ما إذا كانت المنظومة الأمنية ، التي تدير في الوقت نفسه أربع جبهات مشتعلة (غزة، الضفة الغربية، لبنان، وسوريا)، بدأت تفقد تركيزها.
الخلافات المريرة بين السياسيين في إسرائيل، حتى داخل الحزب الواحد، ليست أمرًا جديدًا؛ فهي شائعة مثل الصراخ في جلسات لجان الكنيست والتصويتات المتأخرة في الليل.
لكن ما هو أقل شيوعًا – وأكثر خطورة – هو شرخ علني وحاد بين القيادة السياسية وأعلى قيادة عسكرية.
جذور الخلاف: لجان تحقيق، ترقيات، وسلسلة قيادة
على السطح، يدور الخلاف حول التحقيقات، والترقيات، وسلاسل اتخاذ القرار.
لكن في العمق، يكشف عن ظاهرة إسرائيلية متكررة: ميل الجمهور الفوري للانحياز إلى الجيش عندما يصطدم بالقيادة السياسية.
إسرائيل ليست الدولة الديمقراطية الوحيدة التي يُعجب مواطنوها بجيشهم، لكن قلة من الديمقراطيات تظهر هذا القدر من الاحترام التلقائي واللا واعي تقريبًا للمؤسسة العسكرية، حتى بعد فشل مؤسسي عميق بحجم ما جرى في 7 أكتوبر.
في الخلاف الحالي، تنقل وسائل الإعلام الإسرائيلية السائدة انطباعًا بأن زامير هو صاحب الحق، وأن كاتس يحاول تقويضه لأغراض سياسية. هذا نمط مألوف.
في أغسطس الماضي، عندما نشب خلاف علني بين الرجلين حول تعيين عدد من الضباط برتبة عميد، نشرت صحيفة معاريف استطلاعًا أظهر أن زمير يحظى بنسبة 50% من التأييد الشعبي، مقابل 32% فقط لكاتس، مع عنوان لافت:
"الجمهور قال كلمته: بعد الهجوم على رئيس الأركان زمير، هناك طرف واحد منتصر"
وكان المنتصر – وفق استطلاع الرأي – هو زامير.
ولا يوجد ما يشير إلى أن استطلاعًا جديدًا سيُظهر صورة مختلفة كثيرًا اليوم.
لجنة تورجمان.. وشرارة الانفجار الجديد
انطلقت الجولة الأحدث من المواجهة بعد إعلان زمير نتائج لجنة تورجمان، وهي لجنة متابعة للتحقيق الذي شكّله سلفه هرتسي هليفي لتقييم إخفاقات الجيش في 7 أكتوبر.
اللجنة راجعت التحقيق الأولي ووجدته قاصرًا. وعلى ضوء ذلك، أعلن زمير عن إبعاد عدد من الضباط الكبار من الجيش وتوجيه لوائح توبيخ رسمية لآخرين.
كاتس رفض النتائج، معتبرًا أنها لم تذهب بعيدًا بما يكفي، وأن التحقيق لم يشمل ضباطًا شغلوا مناصب عليا في سنوات سابقة، من بينهم زمير نفسه الذي تولى قيادة المنطقة الجنوبية بين 2015 و2018.
ردًا على ذلك، أعلن كاتس تشكيل لجنة مراجعة جديدة لإعادة فحص النتائج – في ما يشبه سلسلة لا تنتهي من اللجان – ما رسّخ الانطباع بأن الهدف الأساسي هو الإبقاء على الأضواء مسلطة على إخفاقات المؤسسة العسكرية وإبعادها عن إخفاقات المستوى السياسي، الذي لم يفعل شيئًا بعد لفحص مسؤوليته.
خلال فترة المراجعة الجديدة (30 يومًا)، تقرر تجميد التعيينات والترقيات في المناصب القيادية داخل الجيش.
زامير رد بحدّة، محذرًا من أن تجميد التعيينات يمس جاهزية الجيش في وقت بالغ الحساسية.
ورغم أن كاتس لم يُعد تكرار عبارته الحادة التي أطلقها في خلاف أغسطس – حين قال إن "الأيام التي كان الجيش يقرر فيها بنفسه قد انتهت" – فإن خطواته هذا الأسبوع حملت المعنى نفسه:
تجميد التعيينات، وفرض لجنة موازية، وتوجيه رسالة مفادها أن رئيس الأركان لا يعمل دون رقابة سياسية.
أزمة ثقة.. بين الرقابة والمصداقية
جوهر رسالة كاتس – وهو أن فشل الجيش في 7 أكتوبر يثبت أن قرارات الجنرالات يجب ألا تُمرر آليًا بل أن تخضع لتدقيق سياسي دقيق – لم يلقَ صدى واسعًا لدى الجمهور.
بالنسبة لكثير من الإسرائيليين، التفاصيل الجوهرية أقل أهمية من النمط المتكرر:
عندما يحدث صدام بين الحكومة ورئيس الأركان، يكون الميل التلقائي هو الوقوف مع الجيش.
حتى الفشل الكارثي في 7 أكتوبر لم يغيّر بصورة جوهرية من قناعة الجمهور بأن الجيش – رغم كل عيوبه – يظل أكثر المؤسسات الوطنية جدارة بالثقة.
هذا يعود جزئيًا إلى النجاحات العسكرية البارزة التي حققها الجيش منذ 7 أكتوبر، وجزئيًا إلى التاريخ والهوية:
فالجيش جزء متجذر في الحمض النووي للدولة؛ يُنظر إليه ليس فقط كمؤسسة، بل كـدرع لا غنى عنه، وبوتقة صهر اجتماعي، وقيمة موحدة للمجتمع.
في استطلاع "معهد الديمقراطية الإسرائيلي" لثقة الجمهور في مؤسسات الدولة لعام 2024، أعرب 77% عن ثقتهم في الجيش، مقابل 25% فقط في الحكومة. ويحافظ الجيش بانتظام على موقعه في رأس قائمة المؤسسات الأكثر ثقة.
المؤسسة العسكرية تُرى على نطاق واسع باعتبارها مهنية وغير حزبية ومتمحورة حول المهمة؛ في حين تُرى القيادة السياسية باعتبارها حزبية، حريصة على البقاء في السلطة، وتتهرّب باستمرار من المسؤولية.
هذا الميل التلقائي يضفي على كل مواجهة بين الساسة والجنرالات إيقاعًا متوقعًا:
يُفترض أن الجيش يتحرك بدافع الضرورة المهنية والأمنية، بينما يُفترض أن السياسيين يتحركون بدافع المصلحة السياسية – حتى إن لم يكن هذا الافتراض منصفًا دائمًا.
ومن هنا تنبع المفارقة: القيادة السياسية تقول – وبشكل غير غير منطقي – إن الجيش فشل فشلًا جسيمًا في 7 أكتوبر، وأن الرقابة عليه ضرورية.
لكن هذه القيادة نفسها ترفض أن تخضع للنوع ذاته من التدقيق الذي تطالب به الجيش.
الجمهور يرى هذا التناقض بوضوح – ويستاء منه.
من يتحمل كلفة الفشل؟ الجنرالات فقط؟
هذا جانب من الأسباب التي جعلت خلاف كاتس–زمير يهز الساحة بقوة ويدفع باتجاه انطباع سلبي عميق.
فهو يأتي ضمن نمط أوسع ظهر منذ 7 أكتوبر، حين استقال أو أُبعد الواحد تلو الآخر من كبار قادة المنظومة الأمنية: وزير الجيش السابق يوآف غالانت، رئيس الأركان السابق هرتسي هليفي، رئيس شعبة الاستخبارات السابق هارون حليفا، رئيس الشاباك السابق رونين بار، وآخرون.
في كل حالة تقريبًا، جرى تصوير كبار القادة الأمنيين على أنهم المسؤولون الأساسيون عن الفشل، فيما بقي المستوى السياسي عمليًا خارج دائرة المحاسبة.
الرسالة السياسية – تصريحًا أو تلميحًا – كانت واضحة: المشكلة في الجنرالات، وليست في تقدير الحكم السياسي الذي صنع واقع ما قبل الحرب.
زامير.. الجنرال الذي كسر التوقعات
هذا النمط هو ما يجعل بروز زمير كصوت مستقل أمرًا مربكًا للقيادة السياسية.
عند تعيينه، اعتُبر زمير قريبًا سياسيًا وأيديولوجيًا من الحكومة، وذا نزعة عملياتية هجومية؛ أي أنه "رئيس الأركان المثالي" من منظور الائتلاف الحاكم، المتوقع أن يكون متناغمًا مع القيادة السياسية.
لكن منذ تسلمه المنصب في مارس، أوضح – قولًا وفعلًا – أن ولاءه الأول هو لـالمسؤولية المهنية وليس للتنسيق السياسي.
في كلمة ألقاها الأربعاء في ذكرى وفاة دافيد بن غوريون، قال إن القيادة تعني "القدرة على تحمّل الأعباء، حتى عندما تبدو لا تُحتمل"، وإنها تتطلب "قيادة تعترف بالفشل وتجرؤ على إحداث التغيير؛ لا القيادة المتهربة، بل القيادة التي تنظر إلى الحقيقة مباشرة".
هل كان يقصد القيادة السياسية أم العسكرية؟
تعمّد ترك الأمر غامضًا وملتبسًا.
مصادر مقربة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قالت لاحقًا لقناة "كان" إن نتنياهو يعتقد أنه "أخطأ في تعيين زمير"، وأن الأخير "يتصرف باستقلالية مفرطة".
لم تكن الاستقلالية في حد ذاتها هي المشكلة، بل كون زمير يذكّر بلا هوادة بأن المطلوب هو محاسبة حقيقية.
الشرخ في زمن الحرب.. رسالة خطيرة للأعداء
تجاوز الخلاف الحالي قضية الشخصيات، فإسرائيل – خصوصًا في زمن الحرب – لا تستطيع تحمّل عداء علني بين قيادتها السياسية والعسكرية.
أحداث 7 أكتوبر أظهرت مدى خطورة الانقسامات العلنية.
الأشهر التي سبقت الهجوم شهدت توترًا واضحًا بين السياسيين والجنرالات بسبب خطة التعديلات القضائية، وتهديدات بعض جنود الاحتياط بعدم الخدمة.
هذا المشهد من الانقسام بث رسالة واضحة إلى أعداء إسرائيل:-
دولة منشغلة بصراعاتها الداخلية.
ويُعتقد على نطاق واسع أن هذه الشروخ العلنية ساهمت في حسابات حماس الخاطئة، عندما رأت في الانقسامات مؤشر ضعف.
ومع ذلك، نجد اليوم مرة أخرى قادة سياسيين وعسكريين يتبادلون التصريحات المتناقضة والاتهامات المتبادلة ويفقدون الثقة ببعضهم البعض.
رئيس الوزراء لم يتدخل حتى الآن بصورة حاسمة لوضع حد للخلاف.
في الكواليس، تُطرح احتمالات استبدال كاتس، أو استبدال زمير، أو تغيير الحقائب، لا بدافع الضرورة الاستراتيجية، بل لأن العلاقة بين الطرفين باتت متعذرة الاستمرار.
من منظور حماس أو حزب الله أو إيران، قد يبدو هذا أكثر من مجرد خلاف سياسي؛
قد يبدو ككسْرٍ بنيوي في منظومة الحكم، ومن جديد قد يؤدي سوء تقدير لقوة إسرائيل ووحدتها إلى حسابات خاطئة وخطيرة.
جوهر الصراع: من يحاسب من؟
إذا جرى تبسيط الصورة بعيدًا عن الضجيج، تتضح الخطوط الأساسية كالتالي:-
زامير: يحاول فرض منظومة محاسبة داخل الجيش والمضي قدمًا في عملية التصحيح التي أوصت بها لجنة تورجمان.
كاتس: يسعى للتأكيد على أن القيادة السياسية تملك حق الرقابة العليا، ويدفع لتوسيع التحقيق ليشمل ضباطًا خدموا في سنوات سابقة، ما يعني نقل مركز الثقل أكثر نحو أخطاء الجيش.
نتنياهو: يريد الاستقرار والهدوء في المنظومة الأمنية، وهما أمران لا يتوفران حاليًا.
الجمهور الإسرائيلي: المنهك من الحرب والمصدوم من فشل 7 أكتوبر، يريد ببساطة إنهاء هذا الصراع.
لكن الجمهور يريد أيضًا شيئًا أعمق: قيادة سياسية مستعدة للخضوع لنفس معايير المحاسبة التي تفرضها على الجيش.
إلى أن يتحقق ذلك، سيُنظر إلى كل صدام بين السياسيين والجنرالات من زاوية واحدة أساسية: المصداقية.
وفي هذه المعركة، ما زال الجيش – رغم جراحه وإخفاقاته واهتزاز صورته – يحتفظ بالأفضلية لدى غالبية الإسرائيليين.