إسرائيل في مواجهة المقاطعة الثقافية والأكاديمية

نشر موقع Mediapart الفرنسي في 21 نوفمبر 2025 تقريراً تحليلياً مطولاً للكاتب جوزيف كونفافروكس تناول فيه الموجة المتصاعدة من المقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل، والتي باتت خلال عام 2025 أحد أبرز تعبيرات التضامن الشعبي مع الفلسطينيين في الغرب، وخصوصاً في ظل الحرب المستمرة على غزة. يقدم التقرير تقييماً مفصلاً للحالات التي شهدتها الأسابيع الماضية، بدءاً من تعطيل الحفل الذي قدمته الأوركسترا الإسرائيلية في فيلهارموني باريس، وإلغاء جامعة روتردام لمحاضرة عالمة الاجتماع الفرنسية الإسرائيلية إيفا إيلوز، وصولاً إلى الدعوات التي استهدفت المغني الفرنسي الإسرائيلي أمير حداد. ويتوقف الكاتب كذلك عند النداء الذي وقعته قرابة أربعة آلاف شخصية سينمائية عالمية مثل تيلدا سوينتون ومارك روفالو وخافيير بارديم وإيما ستون للمطالبة بوقف التعاون مع مؤسسات فنية وثقافية يُنظر إليها على أنها متواطئة مع الحكومة الإسرائيلية، إضافة إلى إعلان دول أوروبية مثل إسبانيا وهولندا وسلوفينيا وإيرلندا نيتها الانسحاب من مسابقة يوروفيجن 2026 إذا شاركت فيها إسرائيل، وكذلك مبادرة “لا موسيقى للإبادة الجماعية” التي أعلن خلالها أكثر من أربعمئة فنان وشركة موسيقية رفضهم بث أعمالهم داخل إسرائيل.

يرى تقرير Mediapart أن المقاطعة هي في جوهرها أداة سياسية سلمية يمتلكها المواطنون عندما تفشل الحكومات في التصرف بمسؤولية أخلاقية، وهي بذلك تختلف عن الرقابة التي تُمارس من أعلى السلطة. ومن هذا المنطلق، يربط الكاتب بين الحملة الحالية وبين تقاليد عريقة من النضال السلمي مثل حملات غاندي ومقاطعة حافلات مونتغومري بقيادة مارتن لوثر كينغ. ويشير التقرير إلى أن النقاش في أوروبا لا يدور فقط حول جدوى المقاطعة، بل حول ما إذا كان يجب منح “استثناء ثقافي” يحمي المؤسسات الفنية والأكاديمية من أي موقف سياسي. فبعض الأصوات الفرنسية طالبت بتحييد الجامعات والثقافة عن الصراع، لكن الكاتب يؤكد أن هذا الطرح يتجاهل حقيقة أن الثقافة لم تكن يوماً بعيدة عن السياسة، وأنها في أحيان كثيرة تتقاطع مع النقاشات الأخلاقية الأكثر حساسية.

يشير التقرير كذلك إلى الاتهامات التي رُفعت حول ما إذا كانت المقاطعة تحمل طابعاً “معادياً للسامية”، ويرد عليها بالإحالة إلى المؤرخ الأميركي مارك مازاور، الذي يرى أن أخطر ما يواجهه اليهود اليوم هو استخدام تهمة معاداة السامية لإسكات المعارضة وقمع حرية التعبير. ورغم ذلك، يعترف الكاتب بأن إسرائيل تتعرض لنسبة مقاطعة أعلى مقارنة بدول أخرى تدعم حكوماتها سياسات قاتلة، إلا أن هذا لا ينفي أن المقاطعة الحالية تأتي في ظل سياق دولي يغضّ فيه كثير من الحكومات الغربية الطرف عن مقتل عشرات الآلاف في غزة.

ويتناول Mediapart جانباً بالغ الحساسية يتعلق بمسألة ما إذا كانت المقاطعة تستهدف المؤسسات الرسمية فحسب، أم الأشخاص أيضاً. ويعرض التقرير حالات فنانين ومثقفين إسرائيليين معروفين بمواقفهم المعارضة لحكومة نتنياهو، ورغم ذلك طاولتهم دعوات المقاطعة. ويقدم مثالاً على ذلك الجدل الذي نشب خلال “عيد الإنسانية” في باريس، حين اعترض “تجمع سينما فلسطين” على عرض فيلم ناداف لابيد، ثم انسحب من الحدث بعد استبداله بفيلم “لا وطن آخر”، وهو إنتاج مشترك فلسطيني–إسرائيلي يصوّر تدمير قرية مسافر يطا، رغم أنّ مخرجه الفلسطيني نجا من محاولة اعتداء ومشاركاً آخر قُتل على يد مستوطن، ورغم أن المخرج الإسرائيلي يوفال أبراهام يعد من أبرز الصحافيين الذين كشفوا جرائم الجيش الإسرائيلي. ورغم اعتراف حركة PACBI الفلسطينية بأهمية الفيلم، رأت أنه لا يلتزم حرفياً بتوجيهاتها، ما يعكس وجود “مناطق رمادية” في تطبيق المقاطعة.

ويتوسع التقرير في مناقشة إشكالية التمييز بين مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية الرسمية وبين مقاطعة الأفراد بناءً على جنسيتهم، ويقول إن هذا التمييز يبدو بديهياً في النظرية لكن تطبيقه عملياً يتعقد بسرعة، لأن كثيراً من المبدعين الإسرائيليين يحصلون بطريقة غير مباشرة على تمويل حكومي، أو يرتبطون بمؤسسات أكاديمية أو ثقافية رسمية. كما أن بعض الشخصيات العامة، مثل المغني أمير حداد، لا ترتبط رسمياً بمؤسسات إسرائيلية لكنها تؤيد الجيش وسياساته علناً، ما يزيد صعوبة وضع قواعد ثابتة مقبولة للجميع.

وفي تحليل مفصل لقضية فيلهارموني باريس، يشير التقرير إلى أن مؤيدي الحفل اعتبروا أن مقارنة الوضع بالحفل الروسي الملغى عام 2022 غير منطقية لأن قائد الأوركسترا الروسية كان صديقاً لبوتين وداعماً لغزو أوكرانيا، بينما لاهاف شاني معارض لنتنياهو. غير أن الرافضين للحفل رأوا أن الأوركسترا عزفت “النشيد الوطني الإسرائيلي” في نهاية الأمسية رغم عدم إدراجه في البرنامج، وهو ما اعتبروه دليلاً على الطابع “التمثيلي” الرسمي للفعالية. ويعتبر Mediapart أن الاحتجاجات ضد الحفل وُوجهت بتبريرات تستحضر إرث أوسلو ودور دانيال بارينبويم وإدوارد سعيد في تأسيس أوركسترا “ديوان الشرق والغرب”، لكن الكاتب يرى أن هذه المقاربة تنتمي إلى مرحلة سياسية انتهت منذ زمن، وأن الواقع بات أقرب إلى نموذج جنوب أفريقيا حيث لعبت المقاطعة الثقافية دوراً كبيراً في إسقاط نظام الفصل العنصري.

ويختتم التقرير بالإشارة إلى التناقض الواضح لدى بعض المدافعين عن إسرائيل، إذ يغضون النظر عن ممارسات الرقابة التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية نفسها على الإنتاج الثقافي المحلي. ففي سبتمبر الماضي، وبعد فوز فيلم “البحر – Ha’Yam” بجائزة “أوفير”، قرر وزير الثقافة ميكي زوهار وقف تمويل الجائزة بالكامل بدعوى أن الفيلم “مؤيد للفلسطينيين”، رغم أنه إنتاج مشترك عبري–عربي يروي قصة مراهق فلسطيني يحاول رؤية البحر لأول مرة. ويصف الكاتب هذه الخطوة بأنها تعكس حقيقة أن المشكلة ليست “حرية التعبير” بقدر ما هي محاولة لضبط السردية الثقافية بما يخدم سياسات الحكومة.

وبحسب Mediapart، فإن ما يحدث اليوم يتجاوز مجرد موجة غضب عاطفية أو “هستيريا مقاطعة”، بل يمثل رد فعل شعبي عالمي على حرب أودت بحياة أكثر من اثنين وعشرين ألف طفل في غزة خلال عامين، وفي ظل غياب أي ضغط سياسي فعّال من الدول الغربية، باتت المقاطعة إحدى الوسائل القليلة التي يمتلكها المواطنون للتعبير عن رفضهم لاستمرار الحرب وتواطؤ الحكومات.

disqus comments here